-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش - الفصل 3 - 1 الجمعة 6/12/2024

 

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش


الفصل الثالث

1


تم النشر الجمعة

6/12/2024

 لك النظرة الأولى

 الرسلانية ١٩١٤..

 ‏اندفع مصباح نحو البوابة الخشبية القصيرة لدار الرسلانية، يستقبل ضيوف سيده مرحبا، أشار نحو الباب المتطرف نوعا ما بآخر الحديقة، فسار خلفه الضيفان في هدوء نحو المندرة، جلسا فاستأذن في أدب منكس الرأس يقهقهر للخلف غير موليهما ظهره حتى خرج من الغرفة لإبلاغ سيد الدار بقدومهما، وما أن ولى وجهه عنهما منصرفا حين أصبح على أعتاب الغرفة، حتى بدأ وهدان الحراني في إطلاق عينيه بالحجرة الأنيقة الزاخرة بأجود أنواع الفراش والأثاث، والتي تشبه لحد كبير حجرة في بيت مأمور المركز، والتي رأى محتوياتها خلسة من خلف خصاص نافذتها عندما اجتمع الأعيان مع المأمور، لمناقشة بعض الأمور الأمنية منذ سنوات بعيدة، حين كان طفلا يمسك بطرف جلباب والده، كان ذاك ربما أيام هوجة عرابي أو ربما بعدها بقليل... 

 ‏امتعض للحظة متذكرا ما كان، قبل أن ينفض خواطره عن باله، موجها حديثه للخواجه نعيم هامسا: بجولك يا خواچه! اللي هيجول عليه هوافجه، مهما كان اللي طالبه، هنجبل به..

همس نعيم معترضا: لاه، مش أصول شغل دي يا سي وهدان، كده هيفكر إن إحنا واقعين، ويعلي علينا فالسعر، والاهم م الفلوس، إنه يحس إن الموضوع فيه إن، ويرفض البيعة.. 

لم يقتنع وهدان ما جعل نعيم يتطلع له محاولا أن يخفي استيائه من أفعال شريكه، الذي جار عليه الزمان وابتلاه بمشاركته، والذي همس في محاولة لإقناع نعيم: ما يفتكر اللي يفتكره، المهم الأرض تبجى لينا ونخدوها.. 

همس نعيم في نبرة ثعبانية: يا واش، يا واش، يا وهدان بيه، كل حاجة ولها طريقة..و..

هم نعيم بالاستطراد، إلا أن دخول سعد مرحبا جعله يبتلع لسانه منتفضا موضعه وكذا وهدان، فدخول سعد الغرفة أضفى على أجوائها هيبة، جعلتهما منتصبي القامة حتى أمرهما هو بالجلوس في نبرة ودودة، ليتبعه مصباح بتقديم الترحيب اللائق لهما، واضعا صينية الشاي وعليها بعض الأطايب، متنحيا جانبا يقف في صمت، كتمثال بلا روح بإحدى أركان الغرفة، في انتظار أي أمر أو إشارة من سيده.. 

افتتح سعد الحديث متسائلا: خير يا وهدان، مش بعادة الشُجة الغريبة دي.. من ميتا بتاچيني داري! دي لازما الحكاية واعرة جوي!

هتف سعد بجملته الأخيرة في نبرة تحمل بعض السخرية، إلا أن وهدان تجاهلها مؤكدا في محاولة لترطيب الأجواء: وهو أنت جاعد يا سعد بيه!؟ ده أنت جعادك في المحروسة واسكندرية بجي أكتر من جعادك ف الرسلانية.. 

هتف نعيم في نبرة تحمل فخرا مزيفا: أشغال الله يكون في العون.. ربنا يزيد ويبارك يا سعد بيه.. عقبال البشوية عن قريب .. 

كان سعد يعلم علم اليقين، أن ما اجتمع الخواجه نعيم في أمر مع واحد من الرسلانية، أو أي من النجوع والبلدان المجاورة عبثا، بل لابد له من مصلحة ما فيما يخص ذاك الشخص، فما الأمر الذي قد يجمع الشامي على المغربي، ويأتي بوهدان الحراني بصحبة هذا الكهين إلى داره!؟

لم ينبس سعد بحرف، نظراته التي تحمل عمقا وشدة، والتي تبعث تأكيدا لهما أنه يدرك تماما سبب قدومهما قبل أن يتفوه أحدهما بحرف، كانت كفيلة وزيادة بجعل وهدان يعترف مفسرا سبب قدمهما: إحنا طمعانين ف كرمك، ورايدين نشتري أرض البركة.. 

هتف سعد متعجبا: وهي من ميتا أرض الرسلانية للبيع! 

هتف وهدان مؤكدا: ما هي أرض مطرفة وملهاش عازة، وجلت يعني لو لك شوج ف البيع، يبجى أني أولى.. 

تطلع سعد نحو وهدان لبرهة صامتا، قبل أن يهتف ساخرا: حتى لو في نية للبيع، متجدرش يا حراني على تمنها.. غالية عليك جوي..

هتف وهدان متلهفا، على الرغم من إشارة نعيم الخفية بألا يندفع فيما نوى وحذره منه: جول اللي ياجي ف بالك، وأني هشتريها باللي تجول عليه، من غير فصال فجرش.. 

هتف سعد متعجبا: وه، دا أنت مستعجل عليها بجى!.. 

نكس نعيم رأسه، فقد علم مقدما من ردود سعد، إلى ما ستؤول الأمور، مدركا نهايتها الحتمية، ما جعله يترك وهدان ليفعل ما يحلوا له، والذي هتف محاولا أن يتراجع عن فعلته، مدركا أن نعيم كان على حق، يحاول أن يبدو غير ملهوفا على شراء الأرض بهذه الطريقة، مؤكدا في نبرة مذبذبة: لاه مش للدرچة دي، بس أصلها يعني جريبة من أرض الحرانية، جلت نخدوها و...

قاطعه سعد مصدوما: أرض الحرانية! ومن ميتا الحرانية ليهم أرض! 

كانت نظرة سعد كفيلة بإيقاف سريان الدم في عروق نعيم، بينما ارتجف وهدان لا داخليا محاولا أن يظل على ثباته الظاهر، وسعد يستطرد في نبرة ساخرة: دا كان في أي زمن يا وهدان! فكرني كده من ميتا لكم چذور فالرسلانية، لأكون نسيت ولا حاچة!

وانتفض سعد واقفا، لينتفض كلاهما منتصبين موضعهما بدورهما، وسعد يستكمل حديثه في نبرة صارمة، مؤكدا على حقائق لا تقبل المزايدة: كنك نسيت حالك يا وهدان، ونسيتوا تبجوا مين! وانتوا هنا ف الرسلانية كيف! 

عند هذه النقطة، اشتعلت نظرات وهدان غاضبا ولم ينطق حرفا واحدا، لكن تلك النظرات التي ألقاها صوب سعد، الذي داس متعمدا على نقطة وجع حية لدى وهدان الحراني، بل والحرانية جميعا.. كانت كفيلة بقتل سعد بموضعه، ما دفعه ليهرول مبتعدا لخارج دار سعد رسلان، وشياطين الجحيم كلهم بأعقابه، وعلى رأسهم ذاك الشيطان الأعظم.. وكيل إبليس على أرض الرسلانية.. الخواجه نعيم.. 

❈-❈-❈

 ‏

القاهرة ١٩١٤..

وصل به الاطموبيل إلى تلك الدار التي استأجرها بالقاهرة، حين علم أن فترات بقائه بها قد تطول، فقرر أن يستأجرها لغرض المكوث بها، فما كانت السكنى باللوكاندات تريحه، فقد اعتاد البراح وأن موضع سكناه هو داره، وموضع رأسه وسادة وثيرة، وفراش نظيف ومرتب ملك له وحده، لا ملك لمن يدفع ثمن لمبيت ليلته... 

استقبله ذاك الخادم الذي تركه يدير شؤون الدار في غيبته مهللا، وقد أعد العدة لاستقبال سيده في أي وقت، فكان كل ما يرغب به في متناول يده.. 

لقد جاء مسرعا من الرسلانية لأجل تلك الصفقة التي ظن حين كان بالإسكندرية أنها ضاعت من يده، حين تأخر عن حضور الحفل الذي أقامه أحد البشوات، عندما كان في مهمة إنقاذ لتلك السيدة، بعد أن انكسرت عجلة عربتها بعرض الطريق.. لكن لحسن الحظ ظهرت الصفقة من جديد وها هو يسعى إليها.. 

أعد خادمه الحمام الذي ملأ طشته بالماء الساخن والعطور، وساعد سيده على خلع ملابسه والتخلص من إدران السفر، والاستعداد لحفل الليلة الساهر الذي دُعي إليه.. جلس في طشت الحمام النحاسي الذي بالكاد استوعب جسده الفاره وطوله الفارع، وسرح بخاطره وخادمه يمرر ليف الاستحمام الخشن على موضع كتفيه وظهره.. وقفزت من بين زحام الخواطر .. عيناها.. حاول مقاومة حضورها الطاغي بخضم الذاكرة عنوة، كما كانت تفرض وجودها بين سطور ذاكرته منذ اللحظة التي طالعها فيها، مجرد لحظة ومجرد نظرة.. لم يحظ منها بأكثر من ذلك، لكن لم يبدو القليل منها أكثر من كافي، ليزعزع ثبات قلب بقدر الجبل رسوخا!؟... 

فتح عينيه ليطرد صورتها أمرا الخادم بالخروج بإشارة من يده، تاركا نفسه جالسا بالماء لبرهة، قبل أن يقرر الخروج وقد طرد طيفها قسرا، حتى يستطيع التركيز على هدفه الذي جاء للقاهرة من أجل تحقيقه.. صفقته الواعدة.. 

هلّ المساء سريعا، واتخذ طريقه للحفل، مرت عربته بفندق شيبرد الذي أصبح مقر لقوات الإحتلال الإنجليزي، وقوات التحالف منذ بداية الحرب العالمية الأولى، دخل شارع سليمان الحلبي الملاصق له، ومنه وصل بعد بضعة دقائق لحي به الكثير من القصور، كان القصر المعني هو قصر رستم كاظم أوغلو باشا، الذي تصدح منه الأنغام الكلاسيكية الهادئة من الفرقة الموسيقية، التي كانت تحتل بآلاتها الوترية ركن ظاهر من البهو الضخم الذي يشغل قلب القصر الفخم.. 

كان رستم باشا بانتظار المدعويين على أعتاب البهو الأنيق، والذي تدلت من جوانبه الثريات البراقة مضفية على الأجواء المزيد من السحر والجمال.. حضر المزيد من الضيوف من صفوة رجالات المجتمع ونسائه، ليصل هو سائرا نحو موضع وقوف الباشا وحرمه مادا كفه ملقيا التحية في احترام، ليشد رستم باشا على كفه مرحبا، أمرا إياه في مودة: نظيم باشا وصل جوه، وأنت وشطارتك في إقناعه.. 

ابتسم سعد لرستم في امتنان، فقد كان رستم على الرغم من أصوله التركية الأصيلة يميل للمصريين وصحبتهم ومشاركة من يستحق منهم في بعض التجارة والأعمال، وقد اعتقد البعض أن هذه المحبة ربما عائدة لأصوله المصرية من ناحية الأم، فقد كانت أمه من أصول مصرية خالصة تعود لمدينة الإسكندرية، تزوجت من والده كاظم أوغلو والذي تربطه صلة قرابة قوية بالعائلة الملكية بمصر، وانجب منها رستم حتى انتقلت للرفيق الأعلى، حزن عليها كاظم أوغلو كثيرا وقرر العودة لإسطنبول تاركا رستم في رعاية والدي زوجته الفقيدة، بعد رجاءهما لكاظم على ترك رستم، فهو كل ما بقى من أثر لابنتهما الفقيدة، وبهذا بقى رستم بالإسكندرية حتى انتقل عند زواجه للقاهرة واستقر بها، حصل على البشوية بلا جهد يذكر، لكنه ظل على حسن علاقته بالمصريين وفضل صحبتهم وشراكتهم عن الأتراك، ما كان سبب لبعض الخلافات بينه وبين والده كاظم أوغلو، الذي حاول كثيرا جذبه ليعيش في ظل سيادته، والتمتع بسلطة والده في إسطنبول، وأن يجهزه ليكون خلفا له، لكنه لم يخضع لكل هذه الاغراءات، وفضل البقاء في مصر... 

 ‏

الصفحة التالية