-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 15 -1 - الثلاثاء 4/2/2025

 

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش


الفصل الخامس عشر

1

تم النشر الثلاثاء

4/2/2025

 شال حائر

❈-❈-❈

إسطنبول ١٩١٩..

كانت هي.. وما زالت كما هي.. تلك المدينة العريقة التي سلبتها الحب يوما، وها قد عادت إليها تحمل بين ذراعيها ثمرة حب آخر، حب أعظم تحمله بين طيات روحها، تطلعت للمرفأ الذي غادرته منذ سنوات ليست بالبعيدة، وجالت بناظريها في معالم مضيق البوسفور التي ودعتها يوما بدمعة حسرة، ابتسمت وها هي تستقبلها بقلب مغاير، قلب أنار الحب ظلماته، وأسرج العشق مصابيحه بروحها، قبلت أنس ولدها فضل في محبة هامسة له: ها هي إسطنبول يا فضل، أنظر.. دقائق قليلة ونقابل جدك، تراه كيف يلقانا!.. اتعشم حين يرى وجهك الجميل هذا، أن يلين قلبه، ويصفح عن أمك! أيفعل يا فضل! 

همست نازك، التي كانت تتابع حوار أنس مع صغيرها: سيفعل يا سيدتي! .. من يرى وجه فضل الملائكي ولا يرق قلبه! 

هزت أنس رأسها في بشر، لتستطرد نازك: لقد وصلنا أخيرا، علينا الاستعداد لمغادرة الباخرة.. دعيني أحمل عنكِ الصغير يا سيدتي! .. 

ناولت أنس ولدها فضل الذي تململ قليلا رغبة في استكمال نومه بلا قلق، لكنه انتفض حين أعلنت الباخرة عن وصولها ببوق زاعق، ونفير عالِ أزعج نوم الطفل معلنا عن استيائه بالبكاء، ضمته أنس لصدرها مجددا، حتى هدأ طبعه، وراح من جديد في سبات عميق، لتحمله نازك عنها مجددا، حتى يتسنى لها مغادرة الباخرة نحو وجهتها، نحو قصر كاظم أوغلو باشا.. 

توقفت العربة أمام بوابة القصر الخارجية، ترجلت منها أُنس وتبعتها نازك وطفلها، توقفا بالبوابة لبرهة حتى ترك السائق حقائبهما بالقرب ورحل، تطلعت أنس من موضعها من خلف قضبان البوابة الحديدية الضخمة للحديقة الواسعة، التي لطالما ركضت فرحة بين جنباتها حين كانت أمها ما تزل على قيد الحياة، وقبل أن يتحول والدها للعمل السياسي ويصبح أهم رجالاته ومن المقربين للباب العالي وحاشيته.. 

تنبه الناطور العجوز لوجود سيدات بالباب، اقترب يسأل في تفحص: هل من خدمة أقدمها لأجل السيدات! .. 

هتفت أنس بتأثر، حين وعت لبواب القصر الذي جارت عليه السنون: أفتح الباب من فضلك خليل أفندي، أنا أنس الوجود.. 

تطلع البواب فيها لبرهة قبل أن يستجمع ملامحها التي غابت عن ذاكرته الضعيفة ونظره الأضعف، مؤكدا في فرحة: طبعا أنس هانم، تفضلي، مرحبا بكِ في قصركم العامر.. 

دخلت أنس وقدمها مترددة الخطوات نحو بهو القصر، ضربات قلبها تتضاعف في كل لحظة تقترب فيها من مواجهة والدها، لكن البهو كان فارغا حتى من الخدم، وكان الهدوء يعم المكان بشكل مريب، انقبض قلبها، هل يكون والدها قد.. 

لم تسترسل في خواطرها، فقد ظهرت امرأة عجوز ممتلئة القوام، تسير الهوينى نحو موضعها وما أدركت بقدومها بعد، لتهتف أنس الوجود وهي تتمالك نفسها، في محاولة للسيطرة على دموعها كي لا تنهمر: أمي!.. 

توقفت المرأة لبرهة وهي تتطلع لأنس الوجود في صدمة، ليسقط ذاك الصحن الذي تحمل بين كفيها أرضا محطما، صارخة في عدم تصديق: أنس الوجود!.. ابنتي العزيزة!.. 

اندفعت أنس تحتضن مربيتها في شوق طاغ، تبكي وتبكي بين ذراعيها، بل كانت كلتاهما تزرف دموعا إحداهما معاتبة والأخرى مشتاقة، لتهتف المربية يلديز وهي تمسح دموعها: رحلتي على أمل العودة، فغبتي بسبب الحرب، ثم ظهر خبر زواجك دون رغبة كاظم باشا، وكانت مصيبة وحلت على رؤوسنا جميعا.. 

مسحت أنس دمعها هامسة: هل ما زال على حاله، لم يلن لذكر أنس الوجود ولو لمرة! 

ربتت يلديز على كتفها مهدئة، مطالبة إياها في حنو: تعالي اجلسي وارتاحي قليلا، وسأحكي لك كل ما حدث منذ جاء خبر زواجك.. 

ألقت يلديز التحية على نازك في عجالة، فلم يكونا يوما على وفاق، حتى أنها لم تنتبه لذاك الطفل المستكين بين ذراعيها، بل عادت تجلس قبالة أنس تسأل في فضول أم: ما اسم زوجك!.. 

همست أنس في محبة: اسمه سعد.. سعد عبدالمجيد رسلان.. 

همهمت يلديز: يبدو لي اسم رجل فاضل، سعدي بيه.. 

ابتسمت أنس مؤكدة: سعد أمي لا سعدي.. لكن للحق، هو سعدي فعلا.. 

ابتسمت يلديز متطلعة نحو أنس في نظرات متفحصة وبعين خبيرة همست: هذه أنس الوجود التي كنت أعرفها قبل ذاك الزواج المشؤوم من المرحوم طوسون باشا.. 

شهقت أنس في رقة: هل مات!.. إلى رحمة الله.. 

هتفت يلديز في حنق: بل إلى الدرك الأسفل من الجحيم إن شاء الله، توبة .. توبة.. استغفر الله .. ضاعت جميع حسنات بسبب أفعاله معكم.. أنس ابنتنا.. 

أكدت أنس هامسة في رزانة: عوضني الله بسعد بيه أمي، لقد نسيت كل تلك السنوات المظلمة التي عشتها مع طوسون باشا، وما يجوز إلا طلب الرحمات لروحه، أصبح بين يديّ الخالق.. 

شوحت يلديز برقة، غير راغبة في الاسترسال في الحديث عن طوسون، لتسأل أنس مغيرة مجرى الحديث بدورها: لم تخبريني بعد، هل الباشا بحجرته!.. أم.. 

قاطعتها يلديز نافية: الباشا غير موجود بالقصر من الأساس، بل هو غير موجود في إسطنبول بأسرها.. 

سألت أنس في نبرة قلقة: هل هو بخير! ولم هو ليس في إسطنبول! 

همست يلديز: الباشا ترك إسطنبول منذ حوالي الأسبوع وتوجه لأزمير للبقاء بقصره هناك، فقد نصحه الأطباء بذلك.. 

هزت أنس رأسها في خيبة أمل، فقد أصبح عليها الانتظار من جديد للمواجهة، أخرجتها يلديز من خواطرها، وقد همت بالنهوض: عليك الصعود لحجرتك، فهي نظيفة ومرتبة على الدوام، ارتاحي قليلا، والغد أو ربما بعد غد سأعد عربة خاصة توصلنا لمحطة القطار لنصل أزمير، لعل الباشا يرضى ويصفح، أما الآن عليكِ الراحة وأنا سأعد لك طبق حساءك المفضل من صنع يدي.. 

هتفت أنس في مرح: أمي! أصبحت أما، وما زال دلالك لي يفسدني كطفلة صغيرة.. 

هتفت يلديز في نبرة متعجبة: أصبحتي أما! 

نهضت أنس تحمل فضل عن نازك، لتضعه بين يدي مربيتها الحبيبة: ها هو ولدي، فضل الله! ..  

همست يلديز بأعين دامعة: ولدك! هل رزقك الله صبيا، بعد أن كنا نعتقد أنكِ عقيم كما أدعى طوسون.. 

هزت أنس رأسها في تأثر، لتهتف يلديز حانقة: لعنة الله تصب على رأس طوسون وأجداده جميعا..

وتطلعت نحو فضل في حنو: فضل الله، حملي الصغير، الجميل.. 

تاهت يلديز في دلالها لفضل الذي أعتادها سريعا على غير عادته، وبدأ يبتسم لها في وداعة، لتهتف يلديز متسائلة: عيناه لا تشبه عينا أنس ابنتنا.. 

ابتسمت أنس هامسة: تشبه عينا والده، سعد بيه.. عيون عميقة وساحرة.. 

قهقهت يلديز وهي تسحب أنس من كفها نحو الدرج للطابق العلوي حيث غرفتها، مؤكدة في سعادة: لقد قمت بدوري وأنت صغيرة وانهيت كل حكايات العالم حتى يزورك النعاس، والآن حان دورك لتعيدي عليا قصة الأميرة أنس الوجود وحكايتها مع ذاك الفارس سعدي بيه.. وعليا أن استمع في شغف، ولا تغفلي من فضلك أي تفصيلة مهما كانت بسيطة.. منذ اللحظة التي بدأت فيها الحكاية، وكيف.. حتى رزق الله العاشقين فضل الله.. 

كان دور أنس لترتفع قهقهاتها وهي تصعد الدرج خطوة بخطوة تتأبط ذراع مربيتها العجوز والتي كانت بمثابة أم لها، والتي عكفت على تربيتها والعناية بها والسهر على راحتها وعاصرت معها كل تفاصيل حياتها من أفراح واتراح.. تاركي نازك خلفهما بالأسفل تتطلع نحو موضع غيابهما في حنق، فما عاد لها من فائدة تذكر في وجود هذه العجوز الشمطاء، التي كانت دوما لا تطيق قربها وتوددها لأنس الوجود.. 


الصفحة التالية