رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش ـ الفصل 22 - الخميس 3/4/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الثاني والعشرون
تم النشر الخميس
3/4/2025
بحر هائج.. وشراع ممزع..
الرسلانية ١٩٢١..
كما المعتاد، سار الشيخ رضا المحمدي بصحبة سعد نحو المسجد لإقامة شعائر صلاة العصر، ليمرا على مقام الشيخ السماحي، ويكون وهدان هناك في نفس موضعه الذي لا يبرحه بالساعات..
تطلع الشيخ رضا نحو سعد مشيرا صوب موضع وهدان بكفه التي لا تفارقها مسبحته العاجية: هو إحنا هنسيبه كده يا سعد بيه! لازما نخرجه من حالته دي، أني رايح له يمكن يقبل مني ويجي معانا للجامع..
هتف سعد مؤكدا: ياما حاولت يا شيخ رضا، ومفيش فايدة، ده بجاله ع الجعدة دي سنين!
هتف الشيخ رضا: من ساعة ما حكيت لي حكايته وهو مش بيغيب عن بالي، دعيت له كتير، بس لازما نحاول.. خلينا نجرب مش هنخسر حاجة..
طاوعه سعد: وليه لاه يا شيخ، نچرب يمكن ربنا يچعل فيك البركة ويطاوعك.. بس أني هخليني بعيد وروح له أنت يا شيخ رضا.. وربنا يچعل فوشك الجبول يا رب..
هز الشيخ رضا رأسه متفهما، تاركا سعد يتخذ طريقا قصيرا ليصل للمقام من جانب آخر يقف في سكون، مستمعا لحوار الشيخ رضا الذي وصل لتوه لموضع جلوس وهدان الحراني، الذي ما أن ربت الشيخ على كتفه، حتى انتفض مذعورا يتطلع إليه في تيه، ليسأل الشيخ رضا في هوادة: أنت تعرف أني مين!
هز وهدان رأسه في إيجاب هامسا: الشيخ رضا المحمدي، إمام الچامع..
ابتسم الشيخ رضا هامسا: طب كويس أوي، قوم بقى معايا نروحوا ع الچامع نصلو.. حاكم العصر خلاص وجب، ونتكلمو شوية عشان أني عديت من هنا كتير وشفتك قاعد القعدة اللي متسرش دي.. قوم ياللاه، هات يدك..
همس وهدان في اضطراب: اعفيني يا شيخ رضا، روح أنت وأما تخلص نتحدت كيف ما أنت رايد..
أكد رضا وهو يمد كفه صوب وهدان: لأ، مش هروح إلا وأنت معاي، قوم ياللاه، حد يقول لدعوة ربنا لأ برضك!..
تردد وهدان لبرهة، قبل أن يضع كفه بكف الشيخ رضا، لينهض واقفا.. هلل الشيخ في محاولة لتشجيع وهدان، الذي ما أن حاول أن يخطو أولى خطواته في صحبة الشيخ رضا، حتى تسمرت قدماه وما عاد قادرا على دفعها لتخطو قدما، صارخا في وجع: جلت لك بلاها يا شيخ، أني مش جادر..
تطلع الشيخ رضا لوجه وهدان الذي ارتسمت على قسماته مفردات الوجع مفصلة، ما أكد له أن ذاك الرجل لا يدعي كذبا ما يعانِ، وأنه يحمل أوجاعا مضاعفة على كاهلي روحه، استشعرها الشيخ رضا جلية وكأنها صرخة مكتومة لم يسمعها سواه، ما دفعه ليربت على كتفه متفهما، معاونا إياه ليجلس مجددا مستندا بجدار مقام الشيخ السماحي، متسائلا: طب وايش عجب في المقام، قاعد جاره ليل نهار!.. أني سعد بيه حكالي حكايتك مع الهانم أخته، لكن اصرارك ع القعدة دي جار المقام.. غريبة حبتين..
أكد وهدان وقد بدأ يلمع الدمع بعينيه تأثرا، ما أن جاء الشيخ رضا على ذكر توحيد حتى ولو تلميحا، هامسا: أصلك هنا يا شيخ المكان اللي بيفكرني بها، هنا ياما وجفت أدعي ربنا متكونش لحد غيري، من زمان جوي، من أيام ما كنا صغار، وهي اللي كانت فالجلب، سنين طوال وأني بجول يا رب ما تجعل لحد نصيب فيها، واكتبهالي، ولما سمعتني فيوم.. وجالت لي لو رايدني كلم أخوي، جلت طاجة الجدر انفتحت لك يا وهدان، وعملت اللي ما ينعمل لجل ما سعد بيه أخوها يوافج، اتاري طاجة من چهنم اتفتح علينا، اتبهدلنا يا شيخ.. وختمت باللي إحنا فيه ده..
همس الشيخ رضا في شجن: لا حول ولا قوة إلا بالله.. ربنا يصلح لكم الحال يا رب..
سمع سعد ما كان، فظهر من موضعه المستتر، هامسا بصوت متحشرج النبرة تأثرا لما قاله وهدان، الذي لا يدرك أن حال توحيد المسكينة في البعد لا يقل وجعا عن حاله: يعني برضك مش هتجوم معانا يا وهدان، ده أني جلت يمكن الشيخ رضا يكون له دلال عليك!..
همس وهدان رافعا رأسه من موضعه، متطلعا صوب سعد: والله يا سعد بيه ما جادر، حاچة مسلسلة رچلي عن طريج الچامع، وواجفة بيني وبين بيت ربنا، ادعولي لچل ما تنزاح الغمة..
هز سعد رأسه متفهما، ليشير له الشيخ رضا للحاق بالمسجد، وما أن هما بالتحرك حتى هتف وهدان مستوقفا سعد في لهفة: بجولك يا سعد بيه!.. مختار زين! بيسأل على أبوه!..
هز سعد رأسه مؤكدا: زين يا وهدان، وبيسأل كتير..
همس وهدان في نبرة تحمل شوقا لا يمكن تزييفه: وأم مختار!.. يا رب تكون بخير!..
همس سعد متنهدا في قلة حيلة: حالها ميفرجش عن حالك يا وهدان.. ربنا يعين كل واحد على حاله..
أومأ وهدان برأسه متفهما، وما أن أبتعد سعد بصحبة الشيخ رضا مهرولين، في طريقهما للمسجد حتى يلحقا بموعد الصلاة، حتى انفجر وهدان باكيا في حسرة، هامسا في نبرة متوسلة: اچمعني بها.. اچمعني بها..
ظل يكرر تضرعه، وعيناه معلقة بالسماء في تضرع..
❈-❈-❈
أزمير ١٩٢١..
اختفى القائد اليوناني نيكوس كما عادته، غاب عدة أسابيع، ليعود مرة آخرى لمقر قيادة قواته بقصر كاظم باشا المنهوب قسرا، استراحت أنس الوجود كثيرا لغيابه، فبعد آخر مرة تجرأ فيها على لمس ضفيرة شعرها التي انحلت من تحت حجاب رأسها ومحاولته النيل منها، ما عاد لها من أمان في وجود ذاك الرجل، هي كانت تعلم نواياه وليست بخافية عليها، لكنها كانت نوايا مستترة ما أعلن عنها فعليا على الرغم من نظراته الغير بريئة، وكلماته التي تحمل الكثير من التفسيرات الغير مقبولة، لكن أن يتطور الأمر للفعل، فذاك كان القشة التي قصمت ظهر بعير صبرها، وعليها أن تحاول التصرف بسرعة قدر استطاعتها حتى تنجو وولدها من فخ ذاك الرجل الحقير.. لقد صلت ليلتها وتضرعت لله أن ينجيها من مكره، لتستيقظ اليوم التالي وقد أبصرته يسرع الخطى مهرولا نحو عربته الميري، فعلى ما يبدو أن الأمر جلل، وأن عليه الانضمام لقواته على عجل، فأخبار الهزائم المتتالية التي ينالها الجانب اليوناني على يد أولاد جلدتها تصل لمسامعها فتطربها فرحا وتزيدها أملا أن الفرج قادم لا محالة..
لكن ها هو يطل عليهم من جديد بعنجهيته المفرطة التي لا تجد ما يبررها، وخاصة وهو ذاك القائد الذي تنهك الهزيمة قواته على الدوام، لكن هذه المرة كانت مختلفة، على الرغم من عدم تخلي نيكوس عن عنجهيته، إلا أن شيء ما كان مكسورا بنظرة عينيه، التي كانت تشع فخرا على الدوام..
صرخ وهو يدخل البهو في عجالة: أريد قهوتي بالمكتب، بسرعة..
نفذت أنس الوجود في عجالة، فقد كانت تحاول أن تتحاشى الصدام معه، حتى أنها أكدت على ولدها فضل عدم الخروج من حيز الرواق المفضي للمطبخ حتى لا يلمح محياه فيصب جام غضبه على رأسها، أو قد ينفذ تهديده المبطن الذي أكد على اتيانه إذا ما وجد ولدها يلهو في بهو المقر مرة آخرى..
حملت صينية القهوة واندفعت لداخل المكتب بعد أن سمح لها بالدخول، كانت نبرته التي أتت من الداخل تؤكد أنه في مزاج سيء، ما دفعها للتمتمة بدعاء ما في محاولة لاكتساب الثبات وهي تنحني لتضع صينية القهوة قبالته على الطاولة جوار كرسيه المفضل.. تطلع نيكوس نحوها، وجال بناظريه على محياها وتذكر ما كان بينهما منذ بضعة أسابيع، وكيف أثارته جديلتها الكستنائية التي تدلت أمام ناظريه تتأرجح مغوية ما أثار رغبته بشكل لم يعهده في نفسه من قبل، فهو أبدا لم يعدم النساء في حياته، حتى بعد أن قرر أن يمنح كل وقته وجل جهده لعمله فقط، خاصة حين انتهى زواجه التعس تلك النهاية المفجعة، بعد ذاك الحب الكبير الذي كان يحمله بين جنبات صدره لتلك المرأة التي حملت اسمه لسنوات، ساعتها أغلق الباب على قلبه لسنوات مبتعدا عن النساء وخداعهن، ثم أيقن أنه كان مخطئا، وأنه لا مانع من نيل ما يرغب فيه منهن دون أي التزام، فإن كان عرف النساء هو المكر، فعليه أن يكون أكثر مكرا وينل ما يشتهي دون حساب.. فترهات الحب والمشاعر ما عادت تجدي مع نساء هذه الأيام.. مد كفه بشكل سريع نحو غطاء رأس أنس الوجود جاذبا إياه حتى يدفع جديلتها لتنفلت من حجابها كما جرى سابقا، لكن أنس كانت الأسبق وابتعدت عن مسار كفه الخاطف، ما دفعه ليقبض على ساعدها في قوة، جاذبا إياها نحوه، لتسقط تحت قدميه، فانحنى صوبها متحدثا وهي تحاول الفكاك من أسر كفه الفولاذية لمعصمها: لا تعتقدي أن عدم نيلي إياكِ حتى هذه اللحظة هو براعة منكِ!.. لا.. حمقاء لو كان ذاك ظنك، لكنها رغبتي في اللهو قليلا، فلعبة القط والفأر هذه تمتعني حقا، وتجعل الحصول عليكِ لاحقا.. أمرا رائعا ويستحق الانتظار، جائزة النهاية..
كانت أنس تحاول قدر استطاعتها تخليص نفسها من أسره، هاتفة في نبرة خافتة لكنها تخرج قوية حازمة: تتحدث وكأن ذاك هو ما سيحدث في نهاية المطاف!.. أنت واهم، لن تنل مني شعرة إلا على جثتي.. وقد تكون جثتك هي جائزتي أنا.. في النهاية..
ارتفعت قهقهات نيكوس هاتفا: أكثر ما يميزك هو روحك المقاتلة هذه، هي تثير إعجابي حقيقة، لكنها لا تقنعني بالمرة..
وتغيرت نبرة صوته لنبرة أكثر خشونة وقسوة مؤكدا: فأنا أعلم تمام العلم أن النساء وإن تمنعن، فهن في الآخير مجرد عاهرات حتى ولو أدعين القداسة لبعض الوقت..
هتفت أنس في صرامة وهي تجاهد للفرار: هذا وصف لمن تعرف من النساء، لكن نساء بلادنا حرائر، تموت ولا يمسها مغتصب، الموت أهون من أن اسلمك نفسي..
ترك نيكوس كفها بغتة، ما أعطى لأنس الفرصة لتنهض مهرولة لتهرب، لكنها تعثرت في طرف ثوبها وكادت أن تسقط أرضا من جديد، فكانت الفرصة السانحة هذه المرة من نصيب نيكوس الذي استطاع اللحاق بها، وجذبها نحوه من جديد، لتبدأ في مقاومته ودفعه عنها وقد جاهد ليستطيع السيطرة على تمردها، وعنفوان جسدها في محاولاته للإفلات منه، جاذبا بكف متلهفة حجاب رأسها بعيدا، ليشهق مصدوما.. وأخيرا أفلتها.. متطلعا إلى شعرها المقصوص في نظرات مصعوقة، فقد أدرك أنها أتت على شعرها كاملا، ذاك الشعر الوفير الجدائل لم يبق منه إلا زغبا أشبه بزغب بطة صغيرة.. فقد كان رأسها أشبه بجسد قنفذ كستنائي اللون، وقد قصته بهذا الشكل العشوائي بلا رحمة.. أي امرأة هذه!..
استغلت أنس الوجود تيه نيكوس واضطرابه لمرآها بهذا الشكل، لتهرول خارج غرفة المكتب، مبتعدة عن ذاك الرجل، الذي أظهر نيته الحقيقة معلنا إياها في صراحة فجة، وهي لن تدعه ينلها وعليها أن تقاومه.. ولو بآخر نفس لها بصدرها..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٢١..
علا نحيب ما من أحد أركان المكان الذي لم تطأه قدماه من قبل، فأخذ يتطلع حوله في توتر، يبحث عن صاحب ذاك النحيب، فصوت ذاك النحيب الرقيق يعود إليها، وهو يدرك من تكون صاحبته تمام الإدراك، إنها هي، أنيسة الروح ولو غابت، أنس الوجود.. لكن لمَ تبكي يا ترى!.. صرخ باسمها مذعورا.. يتطلع بكل موضع ولا يرى لها طيفا، ليعاود الصراخ باسمها من جديد وصوت النحيب يعلو متوسلا.. ولكن لا مجيب.. ليصرخ للمرة الثالثة باسمها في لوعة.. ليجد سعد نفسه على فراشه، وأن ما كان.. إلا أحد مناماته العديدة التي تراوده منذ رحيلها، والتي يزوره فيها طيفها، لكن هذه المرة هي الأكثر وجعا.. فما نال حتى الأنس بطيفها كالمعتاد، بل كان صوت بكائها يدمي القلب وأنينها يقهر الروح.. ترى ما الذي يجري لكِ يا أنس الوجود في تلك البلاد البعيدة!.. أما آن لك من عودة!..
مسح سعد وجهه في اضطراب، وتطلع لساعته الموضوعة جانبا قرب الفراش، لتشير عقاربها لاقتراب صلاة الفجر.. نهض من موضعه، وقد قرر المسير للجامع متنسما هواء الفجر البارد لعل فيه بعض الراحة لفكره المكدود، مقررا أن ينتظر الشيخ رضا هناك، ليقص عليه رؤياه فربما يستطيع تأويلها بما قد يريح باله على الغائبين ولو قليلا.. فها هو يحث المهندس الايطالي والعمال على العمل ليل نهار في تشييد تلك الدار التي أكد عليه الشيخ رضا المحمدي أن تمام البناء مرتبطا بعودة الغائبين، حتى أنه حدد موقعا متميزا وغرس فيه تلك البذور التي استيقظ في المسجد بعد رؤياه ووجدها بحضن كفه، حتى تنمو وتصبح منتجة الثمار مع توقيت إتمام بناء الدار..
خرج بالفعل سائرا في الدرب باتجاه المسجد، حتى أن مصباح عرض عليه صحبته، لكنه رفض متعللا بضرورة بقائه لإبلاغ الشيخ رضا حين يمر على الدار، أنه سبقه للجامع وينتظره هناك للضرورة..
قطع سعد خطوات لا بأس بها مبتعدا عن داره، وما أن هم بالانحراف متخذا الطريق المعتاد صوب المسجد، حتى ظهر له أحد الرجال، حاملا أحد المصابيح، معتذرا في تأدب: السماح يا بيه، الخواچه الطلياني رايدك على عچل عند مكان الحفر..
تطلع صوبه سعد في توجس متسائلا: أنت واحد من خدمه!..
هز الرجل رأسه مجيبا في تأكيد، ليستطرد سعد متعجبا: وايه اللي يصحي الخواچه بدري كده على مكان الحفر!..
همس الرجل في نبرة آلية: معرفش يا بيه، هو جال لي روح استعچل سعد بيه، واديني چيت..
هز سعد رأسه متفهما، وأشار للخادم بعصاه الابنوسية ليتقدم خطوة أمامه منيرا الطريق بمصباحه وقد غيرا طريقهما نحو أرض البركة المعتمة الدرب في مثل هذه الساعة من بواكير الفجر.. وقد اطمأن أنه ما زال هناك بعض الوقت ليلحق بصلاته حاضرا في المسجد، بعد أن يعرف ما الأمر الهام الذي دفع الباشمهندس الايطالي لطلبه اللحظة على وجه الضرورة!..
اقترب الخادم من موضع الحفر الذي بدأت تعلو فيه الأعمدة ويستطيل فيه البنيان، وخلفه سعد يتطلع حوله ولا يرى مخلوق، ما دفعه ليهتف متعجبا: فين يا واد الباشمهندس!
انطفأ المصباح، وحلت العتمة، وتبخر الرجل كأنه ما كان، ليستشعر سعد الخطر المحدق، هم بالهرولة مبتعدا عن ذاك الموضع الذي يتراكم فيه بقايا حفر ذاك الأخدود العميق.. لكن كفين دفعتا به في قوة نحو الهوة السحيقة، ليصرخ ما أن استقر بقاعها صرخة مدوية وحيدة.. ساد بعدها الصمت..
اندفع نعيم لداخل داره في حذر، لكنه انتفض فزعا عندما هتفت به رحيل زوجته متسائلة في ذعر: اوعى تكون رحت عملت اللي فدماغك يا نعيم!.. أنت مش هتتهد إلا لما ننطرد م النجع كله من تحت راسك.. واتشرد تاني أنا وعيالك!..
همس نعيم في حنق، وهو يزيح عن كتفيه بعض الغبار: مفيش حد هيكون سبب في طردنا إلا صوتك العالي ده يا رحيل! ما تعليه أكتر وسمعي النجع كله خلينا منبتش فيه!..
همست في حنق بدورها: وهو في حد عاقل يفكر يعمل اللي أنت جاي من بره وشكلك نفذته، والانشراح باين على وشك أهو!
همس نعيم في نشوة: ايوه خلاص، نفذت اللي كان مفروض يتعمل من زمان، خلصت من سعد رسلان، العمود اللي الكل كان بيتسند عليه وميقعش.. ومع موته هيتوقف البنا لحد كده، وهيهجروا المكان وأرجع أشوف أنا بقى حالي من جديد..
تطلعت رحيل نحوه في ريبة: أنت خلصت عليه بحق يا نعيم!..
أكد نعيم في تشفي: أيوه، زقيته لجوه الحفرة الغويطة بأيدي، وسمعت صرخته بوداني لحد ما خرس، مكنش ينفع أخلي حد ينول الشرف ده إلا أنا.. أنا أستحق أكثر من أي يهو..دي.. مؤمن.. مباركات الرب.. بالخلاص من راس الأفعى اللي اسمه سعد رسلان ده، وأكون جدير بدفنه في الأرض اللي فكر يحرمني من عطاياها..
ضربت رحيل صدرها بباطن كفها في ذعر حقيقي، وهي تتطلع حولها في تيه هامسة: لا، أنا مش قاعدة فيها، مش هستنى يعرفوا حتى باللي أنت نيلته، أنا ماشية وواخدة عيالي معايا، قبل ما يعرفوا إنك أنت اللي قتلت كبيرهم..
همت بالاندفاع للداخل منفذة تهديدها لكن نعيم جذب ذراعها في عنف مستوقفا إياها، مؤكدا في نبرة حازمة: مفيش حد هيتحرك من هنا، لا إنتي ولا العيال، وأنا هاخد اللي ليا غصب عن عين التخين فيهم، وبعدين هو في حد شافني، ولا هيتوقع إني أنا اللي عملتها من أساسه!.. يبقى مالك مرعوبة كده!.. إحنا ناس غلابة ماشيين جنب الحيط لا لينا ولا علينا.. فهماني يا رحيل!..
تسمرت رحيل موضعها ولم تنطق حرفا، فقد كانت نظرات نعيم المتطلعة نحوها في هذه اللحظة.. نظرات شيطانية بحق.. جعلتها تبتلع ما كان على طرف لسانها من اعتراضات، واومأت برأسها في طاعة دون جدال..
❈-❈-❈
أزمير ١٩٢١..
انتفضت من فراشها في ذعر، فقد أخذتها سنة من نوم جعلتها تتأخر عن ميعاد تقديم الفطور للقائد نيكوس، هرولت كالمجنونة وهي تضبط غطاء رأسها وقد تأكدت من هندامها قبل أن تندفع نحو المطبخ في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وما أن همت بوضع القدور على النار، حتى دخل العجوز عون للمطبخ باسما كعادته، مؤكدا في محاولة لتهدئتها، مدركا بفطنته سبب توترها: هوني عليكِ يا ابنتي، لقد قمت بالمطلوب، وانتهى القائد من إفطاره..
تنهدت أنس في راحة، وسألت في نبرة مرتابة: ألم يسأل عني!
أكد عون في رزانة: لا لم يفعل، هل من خطب!
هزت أنس رأسها نفيا، ثم سارت لخارج المطبخ في اتجاه حجرتها من جديد لتوقظ طفلها حتى تهتم بتناوله فطوره قبل أن تنغمس في مهامها، لتشهق في صدمة ما أن وجدت فراش طفلها شاغرا..
اندفعت من جديد باحثة عنه في ذاك النطاق المسموح له اللهو فيه، تتضرع أن يكون طفلها قد استجاب لأوامرها بألا يخرج لبهو المقر كما نهى القائد نيكوس من قبل..
بحثت في كل موضع قد يكون فيه لكن بلا جدوى، كادت أن تبكي هلعا، فأين تراه يكون!.. وهل خالف الأوامر فنفذ ذاك الحقير تهديده وتخلص من طفلها!.. كان ذاك الخاطر وحده كفيلا بجعلها تتحول إلى امرأة فاقدة لكل منطق، وهي تندفع صوب الخارج حيث يتريض ذاك الوضيع نيكوس بالحديقة.. لن يسلم هذه المرة من براثن انتقامها.. ولتتخلص منه حتى يرتاح الجميع وترتاح هي بدورها من كل هذا الذل.. خطت أولى خطواتها لخارج القصر بحثا عن سبب أوجاعها للنيل منه.. بحثت بأرجاء الحديقة الأمامية عن محياه لكنها لم تعثر له على أثر، ما دفعها لتهرول للحديقة الخلفية وعين خيالها تصور لها أسوء خيالات يمكن أن تخطر على بال، لكنها تسمرت موضعها حين وقع ناظرها على القائد نيكوس جالسا على أريكة خشبية بركن ما، يتطلع صوب ولدها فضل الذي كان يلهو بالكرة في أريحية تعجبت لها، فقد كان فضل مدركا على الرغم من صغر سنه أن عليه الحرص في وجود ذاك الرجل القاسي، كما أكدت عليه هي عدة مرات، وتجنب التواجد معه في أي موضع، فما بال ولدها اللحظة يلهو بكل هذه السلاسة في وجود نيكوس بالجوار!..
هتفت في ذعر مستدعية طفلها: فضل! تعال إلى هنا فورا..
هم فضل بالاندفاع منفذا أمر أمه محتضنا كرته الصغيرة بين ذراعيه، لكنه تعثر في خشبة صغيرة جعلته يفقد توازنه ويسقط أرضا، هرول نيكوس نحوه وكان الأسبق في وصوله لموضع سقوط فضل، الذي ما أن وصلته أنس الوجود، حتى وجدت نيكوس يساعد طفلها في النهوض، متسائلا في لهفة: هل أنت بخير!..
أومأ فضل مؤكدا: نعم، أنا بخير، شكرا..
جذبت أنس طفلها نحو صدرها هامسة في ذعر: هل أنت بخير حقا!..
هز فضل رأسه مؤكدا أنه بخير ولم ينطق حرفا، وما أن همت أنس الوجود بحمل طفلها مغادرة، حتى استوقفها نيكوس هاتفا: أنس الوجود!..
تطلعت أنس نحوه هاتفة في نبرة قلقة: آسفة على التأخير في تحضير وجبة الإفطار، وكذلك لعدم اتباع تعليماتك فيما يخص ولدي.. لكنه طفل صغ..
قاطعها نيكوس متسائلا: لمَ فعلتي ذلك!..
لم تجب أنس لبرهة، فما كانت تدرك ما يقصده، ما دفع نيكوس للاستطراد موضحا: لمَ قصصتي شعرك بهذا الشكل الصعب!..
لم تجب أنس الوجود، فما كان لديها من إجابات قد تثير غضبه، وهي تحاول أن تتجنب أي حديث أو فعل من شأنه إشعال نيران ثورته، ليستكمل متعجبا: أكّل هذا من أجل أبو ولدك.. ذاك البعيد عنك ملايين الأميال، رجل قابع في بلد آخر، قد يكون عرف نساء أخريات بعدك، أو ربما تزوج بآخرى، وأنت هنا تحرمين نفسك متع الحياة من أجل ترهات الوفاء والإخلاص له!..
تنهدت أنس هامسة: على الرغم من أني أفعل ذلك احتراما لزوجي، إلا أن الدافع الحقيقي وراء ذلك هو احترامي لنفسي، وتنفيذي لأوامر ديني..
هتف نيكوس مؤكدا: هو نفسه الدين الذي يتيح له المتعة بالزواج من عدة نساء!.. ويحرم عليك ذلك!.
أكدت أنس: لن اجادلك لكني على ثقة أنه لن يفعل، وهو ينتظرني على الرغم من أنه لا يعلم هل أنا على قيد الحياة أم فارقتها، ينتظر عودتي بنفس اللهفة والشوق الذي انتظر فيها انتهاء هذه الحرب والعودة إليه..
قهقه نيكوس ساخرا: أكاذيب العشق وأوهام الغرام!..
همست أنس الوجود بلا رغبة في مناقشته: ربما، كل شيء جائز..
همس نيكوس في شك: ربما..
استأذنت أنس الوجود في عجالة، حاملة طفلها بين ذراعيها مندفعة نحو الداخل.. ونيكوس يتبعها بناظريه وهو يتساءل بنفسه، هل هي فعلا على حق!..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٢١..
مر الشيخ رضا المحمدي على دار سعد رسلان من أجل اصطحابه لصلاة الفجر كما العادة، لكن مصباح أخبره أن يسبقه للمسجد، وقد فعل الشيخ لكن سعد لم يحضر، فأعتقد الشيخ رضا أن في الأمر بعض السهو أو التقصير بعدم حضور سعد لأي سبب، لم يعاتب.. حتى حين غاب سعد لبقية اليوم ولم يظهر، اعتقد مصباح أن سيده قد غادر لموضع ما دون إخباره، وخاصة أن الخواجه الإيطالي الذي يقوم على بناء الدار الجديدة قد جاء مهرولا ليستأذن ليسافر للمحروسة لأمر عاجل، تاركا إعلام سعد بالأمر لمصباح خادمه، معنى ذلك أن سعد لم يكن بموضع الحفر والبناء ولم يمر عليه حتى.. تراه أين يكون مستقره اللحظة!..
مر اليوم وما عاد سعد، لم يكن من المعتاد أن يغيب ولا يبلغ مصباح بموضعه، ما زاد من حيرة الخادم الأمين مقررا أن يتحرك بحثا عن السيد الغائب ما أن يهل الصباح، مخبرا الشيخ رضا بخطته فوافقه عليها.. فقد كان الشيخ رضا لا يقل قلقا عن مصباح لغياب سعد الغير مبرر..
انتفض الشيخ رضا المحمدي على فراشه متعرقا، وفز باحثا عن ملابسه، لتسأله زوجه في تعجب: أنت رايح على فين الساعة دي! ده لسه الفجر عليه شوية..
لم يرد الشيخ رضا، بل اندفع متوجها صوب دار سعد مناديا مصباح الذي استيقظ منتفضا مجيبا الشيخ في عجالة، والذي سأل في اضطراب: تعال معاي، وهات معاك رچالة، أني عرفت سعد بيه فين..
انتفض مصباح منفذا، أمرا بعض العبيد والخدم باتباعه حاملي المشاعل، ليتوجهوا جميعا نحو أرض البركة.. التي ما أن وطأوا أرضها حتى أخذ الشيخ رضا في النداء عاليا باسم سعد لعدة مرات بلا مجيب، لكن أخيرا سمع صوت ينادي في وهن من داخل هوة واسعة على أطراف أرض البركة.. اندفع صوبها الجميع ما أن أن أدرك الشيخ رضا موضع النداء الخافت ليجدوا سعد ملقى بجوف الهوة غير قادر على الحركة..
قام الخدم والعبيد بكل ما أمكن حتى استطاعوا إخراج سعد من الهوة بأعجوبة.. ليتم نقله لداره.. وإحضار الطبيب لعمل اللازم..
❈-❈-❈
أزمير مطلع..١٩٢٢..
كان الوضع مستقرا إلى حد كبير بالقصر، وما بين ذهاب نيكوس وعودته كان الحال هادئا.. فما عادت عودة نيكوس للقصر تحمل لها ذاك التهديد الذي كانت تقع تحت طائله كما السابق، فقد تحول كليا منذ ذاك اليوم الذي حاول فيه النيل منها فاكتشف ما فعلته بشعرها، حتى تعامله مع ولدها فضل بات مميزا، بل إنها تكاد تجزم أن العلاقة بينهما قد تطورت لصداقة عجيبة من نوع خاص، فما أن يكون بالقصر، يجلس في الحديقة الخلفية تاركا فضل يلهو بكرته، وقد لاحظته أنس عدة مرات وهو يتبع فضل بنظراته التي كانت تحمل الكثير من المشاعر المختلطة، ما بين حسرة ومحبة وألم مخبأ بحرص شديد بين طيات نفسه، حتى أنه أحيانا يتخطى أحزانه تاركا إياها خلف ظهره، لينهض قاذفا الكرة نحو موضع فضل الذي كان يقفز فرحا حين يشاركه نيكوس لعبه.. كانت تقلق في مبتدأ الأمر، ولا تأمن على ترك فضل وحيدا مع نيكوس، لكن بعد عدة مرات، ومع استشعارها محبة فضل لنيكوس، بدأت ترتاح للأمر مع وضع عينيها على موضع بقائهما، وكثيرا ما تقطع خلواتهما جاذبة فضل للداخل، وهذه المرة لم تكن استثناء حين ألقت التحية مستأذنة لتأخذ بيد فضل للداخل مدعية أنه لم يتناول طعامه، إلا أن نيكوس استوقفها متسائلا: أنس الوجود!..
توقفت لبرهة مستديرة تواجهه، ليستطرد متسائلا: منذ اللحظة التي وقعت عيناي على محياكِ، وأنا أدرك أني رأيتك من قبل، وكثيرا ما حاولت أن أتذكر أين كان ذلك، لكني لم أعرف.. ألم نتقابل من قبل!
أكدت أنس في نبرة واثقة: لا لم يحدث، كانت المرة الأولى يوم أن ألقي القبض علينا، واحضرتني إلى هنا.. ولم أكن أعلم بوجودك قبل ذلك اليوم..
هز نيكوس رأسه متفهما، وما أن همت بالرحيل حتى استوقفها نيكوس متسائلا من جديد: أنس الوجود! هل يمكنك مشاركتي العشاء الليلة!
تطلعت أنس الوجود له في دهشة، وأجابت في نبرة حازمة على الرغم من هدوئها: اعتقد أن ذاك لا يجوز، سامحني .. يجب الانصراف.. فقد حان وقت إعداد طعام العشاء.. عن إذنك..
سحبت أنس الوجود ولدها للداخل مهرولة، وظل نيكوس موضعه يتطلع إلى تلك المرأة الفريدة التي بدلت رأيه في النساء، وهو يجاهد ضاغطا على ذاكرته محاولا تذكر موضع لقائه السابق بها، فهو على يقين أنه قد رآها من قبل في موضع ما، لكنه لم يتذكر حتى اللحظة.. أين كان ذلك..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٢٢..
ما أن أدركت توحيد ما حدث لسعد حين غاب عن موعده المحدد لعودته للمحروسة، عن طريق أحد الخدم الذي أرسلته ليتقصى عن سبب تأخر أخيها، حتى عزمت على العودة للرسلانية بعد أن اقسمت ألا تعود لها إلا وهي جثة هامدة ليواريها ثراها.. ليس قبل ذلك.. لكن ذاك الحادث الذي وقع لسعد والذي اقعده عن الحركة جعلها تنتفض ملقية قسمها جانبا، مهرولة للرسلانية حتى تكون في خدمة أخيها الوحيد وليكن ما يكون..
كانت إصابة سعد شديدة، فقد اقسم الطبيب أنه لولا صلابة سعد وقوة بنيانه، لما استطاع جسده تحمل تلك السقطة القاصمة، ولا عاش يوم كامل بليلة بلا طعام أو حتى شربة ماء.. حتى جاءه الفرج، واستطاع الشيخ رضا المحمدي إدراك موضعه من رؤيا عجيبة واتته قبيل الفجر بساعة، تلك الرؤيا التي ظلت مضرب لتعجب الكثيرين.. فقد رأى الشيخ رضا في منامه سعد وهو بعرض بحر هائج على لوح من خشب تتقاذفه الأمواج، وفي عرض البحر ظهر ذاك الحوت الضخم مبتلعا سعد واللوح الخشبي في آن واحد.. نادى عليه الشيخ رضا من موضع بعيد في عزم يدفعه للتصبر ملقنه دعاء ما، ليبدأ سعد في ترديد دعاء سيدنا يونس متضرعا.. لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.. ظل الشيخ رضا يلقن سعد الدعاء، وسعد يردده خلفه في عزم، حتى استيقظ الشيخ رضا منتفضا، مدركا من تفسير رؤياه أن سعد في ضيق، وقد كان كما أول رؤياه، وتم إنقاذ سعد من تلك الهوة السحيقة التي استقر بقاعها جسده..
دق الشيخ رضا المحمدي باب حجرة سعد، ودخل حين سمع الإذن له بالدخول من مصباح خادم سعد الذي ما عاد يفارقه، كان سعد طريح الفراش وقد كسرت ساقه وتم تجبيرها، تنبه سعد لوجود الشيخ رضا حين ألقى التحية، فرد في هوادة، ليترك مصباح الغرفة في هدوء، فقد كان وجود الشيخ رضا كافِ ليطمئن أن سيده في أمان..
سأل سعد في هوادة: عرفت كيف مكاني يا شيخ رضا!..
أكد رضا في رزانة: ربك بعت الإشارة وأني فسرتها، رؤيا عجيبة لما فطنت لمعناها عرفت إنك في ضيقة.. كنت بتستنجد وأنت فمكان كله عتمة.. زي ما كان سيدنا يونس في بطن الحوت.. فقعدت أكرر عليك دعاء سيدنا يونس وأنت ترد ورايا.. لحد ما صحيت ع الفجر وأني بكرر الدعاء ده.. وربنا ألهمني إنك هناك في مكان الحفر.. رحنا على هناك ولقيناك..
همس سعد متنهدا: الظاهر إن ربنا رسايله ياما يا شيخ، بس إحنا اللي غافلين..
ساد الصمت لبرهة، ليستطرد سعد بنبرة متحشرجة: أني سمعت مرتي فرؤيا كنت رايح الچامع احكيهالك، كانت بتبكي بس صوت بكا هو اللي وصلني.. لكن مشفتهاش يا شيخ، أول مرة منضرش طيفها حتى.. هو يكون إيه جرا!..
تنهد الشيخ رضا، رابتا على كتف سعد مؤكدا: كل خير، البكا فرج، استبشر خير، ويمكن اللي ملمحناش طيفه فالرؤيا، يبعته ربك ويبقى قصاد العين..
هز سعد رأسه باسما، على الرغم من عينيه التي كانت تجاهد الدمع العزيز، ليستأذن الشيخ رضا لصلاة العصر التي وجب وقتها، والذي ما أن خطا خارج دار سعد، حتى وقع ناظره على محيا وهدان الحراني وهو يتخفى قدر الإمكان متطلعا صوب دار الرسلانية، عيناه الدامعة معلقة بنافذة ما، فأدرك رضا بلا حاجة لرفع رأسه للتأكد من صحة ظنه، أن توحيد أخت سعد تقف خلف خصاصها تتطلع إلى وهدان بدورها، وهدان الحائر النظرة بين النافذة وصاحبتها وبين ولده الذي يلهو في الحديقة، غير مدرك أن أباه يقف على مقربة منه، يكاد أن يموت شوقا ليضمه لصدره..
تنهد رضا في قلة حيلة، مقتربا من موضع وهدان، رابتا على كتفه في تفهم، مطالبا وهدان في هوادة: تعال معاي يا وهدان..
همس وهدان ولا زالت العيون معلقة بنافذة آسرة الروح: على فين يا سيدنا..
جذبه رضا في عزم: تعال بس وأني أقولك.. مش هنجعد نتكلم هنا..
تبعه وهدان في تسليم، لكن العيون لم تفارق النافذة حتى توارت عن ناظريه..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩١..
كان شبل يجلس القرفصاء جوار الركوة يحضر المزيد من أكواب الشاي، ربما للمرة الثالثة، يشكو لسيده أحوال أمه المريضة وطفلته الصغيرة التي تحتاج إلى امرأة ذات عافية لتقدر على خدمتها والاعتناء بها، ليهتف حبيب مقترحا: طب ما لو فيها چواز، ما تاخد نبيهة يا شبل! ..
صرخ خفيره مذعورا كمن لدغته عقربة لاقتراح سيده الصادم، هاتفا بدوره في فزع: نبيهة! بجى ترضهالي برضك يا بيه! نبيهة! هو أني مضايجك جوي كده عشان تبتليني البلوة السودا دي!
قهقه حبيب متعجبا: ليه بس! مالها نبيهة! البت صغار وزي الفل.
هتف الخفير مستنكرا: زي الفل! أنهي فل! الأبيض الحلو ده اللي يرد الروح! الله يسامحك يا بيه!
أرتفعت ضحكات سيده مجددا متسائلا: فيها إيه بس نبيهة!
زعق الخفير: جول مفيهاش إيه! أني معرفش أبوها عم ذكي الله يرحمه، كان عجله فين لما سمى بته دي نبيهة! دي مفيش فراسها بمليم عجل ولا ريحة نباهة من أساسه، جال نبيهة جال!
تعالت ضحكات ولي نعمته ساخرا: شوف مين اللي عيتكلم، أنت واعي لروحك! اسمك شبل، وأنت كيف التور اللي يوعالك داخل عليه كن دخل عليه دم، بشنبك ده اللي يوجف عليه الصجر! جال شبل! ده أنت بيخوفوا بِك العيال الصغيرة، الله يسامحه ويرحمه أبوك عم ضرغام..
قهقه شبل فارتج جسده العامر الأشبه ببناية من ثلاثة طوابق، هاتفا في أريحية: الله يحظك يا بيه.. ثم أكد متعجلا: بس برضك چواز شبل من نبيهة باااااطل..
أرتفعت قهقهات سيده مجددا واقترح وهو يرتشف رشفة آخرى من كوب الشاي: بس فكر منتش خسران حاچة..
هتف شبل ساخرا: أفكر! وهو لو فكرت هتچوزها من أساسه يا بيه! ده أني لازما عشان أوافج أكون متبنچ جبلها، ربنا يكملني بعجلي..
أرتفعت الضحكات من جديد، وشبل يضبط سلاحه الذي لم ينحه عن كتفه جانبا، على الرغم من جلوسه على الأرض جوار ركوة الشاي، مبتسما لسيده في وداعة طفل، ابتسامة مناقضة تماما لتلك البنية الضخمة والقسمات الصلبة التي يمتلك.. مادا كفه نحو راديو الترانزستور عابثا بمؤشره، ليندفع منه صوت حاد، كاد أن يلقي الراديو على أثره منتفضا، فإذا به صوت نبيهة تدعوه من الداخل، ما جعله يهتف في ذعر: يا منچي من المهالك يا رب..
لترتفع ضحكات حبيب على أفعال شبل، الذي نهض على مضض ملبيا نداء نبيهة المتتابع.. هم حبيب برفع كوب الشاي لفمه حين دخل مدثر كالصاروخ هاتفا في حنق: أنت جاعد هنا ومتعرفش اللي بيحصل!
انتفض حبيب دافعا كوب الشاي جانبا، متسائلا في ذعر: ايه في!..
هتف مدثر وهو يجز على أسنانه، كاتما دموعه الحبيسة في قهر: نچية حامل يا حبيب!..
لم يكن رد فعل حبيب متوقعا، فقد جذب مدثر من تلابيه، هاتفا به في ثورة مكتومة: أني مش جلت لك أبعد عنها! أها اللي كنا خايفين منه حصل.. وهي ال..
صرخ مدثر دافعا عنه حبيب، مؤكدا في نبرة منكسرة: مش أني.. أحلف لك ب ايه إنه مش أني..
هتف حبيب زاعقا ممسكا في تلابيب مدثر مجددا: محدش غيرك بيحوم حوالين بيتها، ولا مترجبها كيف ضلها إلا أنت.. بس أنت عرفت منين حاچة زي دي من أساسه!..
نكس مدثر رأسه، هاتفا بنبرة منكسرة: سمعتها وأني چنب دارها بتجول للأستاذة.. صرخ حبيب في حنق: أها، ده اللي بجول عليه، جاعد لها ليل نهار على بابها، وتجولي مش أني!.. اومال هتكون حامل من مين!..
هم مدثر بالرد، لكن صوت أنس الوجود علا مجيبا سؤال حبيب في حزم: من جوزها يا حبيب بيه!..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩١..
رن الهاتف داخل مكتب نصير الراوي، كان رنين خاص يؤكد أن المكالمة قادمة من خارج البلاد، ما دفعه ليشير لهاجر التي كادت أن تهم برفع سماعة الهاتف لتجيب، لولا أنه نهرها في شدة، ما جعلها تتراجع عن الإتيان بأي حركة كرد فعل لبرهة، قبل أن يستطرد هو أمرا في عجالة، مشيرا لها بكفه لتخرج: روحي على اوضة مكتبك، وأنا هطلبك تاني لما انهي مكالمتي عشان نكمل اللي بدأناه، ياللاه..
أطاعت هاجر في عجالة، مغلقة الباب خلفها في سرعة، وهي لا تدرك لمَ كان نصير بهذه الحدة التي لم تعتدها منه في التعامل، كان دوما هادئ الطبع، رزين الكلمات، لكن مؤخرا، وبالأدق، منذ اختفت أنس الوجود بعد طلبه الزواج منها، وعادت للنجع البعيد حيث كان عليها بيع نصيبها من أرض كانت إرث لوالدتها والعودة للقاهرة، وهو على هذه الحال العجيبة.. هل أثر غيابها عليه كل هذا التأثير!.. وكيف لرجل صارم مثل نصير لم تهزه الخطوب يوما، أن يهز كيانه غياب امرأة لم يلتقيها إلا مرتان على أكثر تقدير!..
دمعت عيناها في حسرة على حالها وهي التي كانت وما زالت تعشقه، ولم يحرك هواها الكبير في ذاك الرجل شعرة، بل إنه غافل تماما عن مشاعرها.. لكنها كما المعتاد، كتمت دمعها ووضعت جل تركيزها في مراجعة أوراق العمل الموضوعة قبالتها، متعجبة من دفع نصير لها لخارج غرفة مكتبه، ليرد على تلك المكالمة الدولية!.. منذ متى يفضل أن يكون وحيدا عند تلقي مكالمات العمل!.. كان ذاك الخاطر يجول ببالها، بينما يهتف نصير في نبرة مترددة، وبلكنة إنجليزية خالصة: فعلت كل ما بوسعي لأحصل على أي معلومة قد تفيدك سيدي، لكن أمها، لم تفصح عما قد يفيد، كلماتها مقتطعة لا تحمل حقيقة شافية أبدا، بل أكاد أن أجزم أني حين زرتها للحصول على ما يمكن أن يدفع الأمر نحو الأمام خطوة، بعد أن فشلت مساعيكم في إرهاب ذاك الرجل المتصلب الرأس في بلادهم البعيدة، كانت تدعي قول الحقيقة لي، لكنها أبدا لم تنطق بالحق تلك الخبيثة..
هتف السيد على الطرف الآخر من المكالمة ببضع كلمات، كانت تحمل تكليفا ما لنصير، استمع له في هدوء وتركيز، قبل أن يغلق الهاتف متنهدا في ضيق.. زافرا في غيظ، مسح وجهه بكلتا يديه يحاول التخلص من التوتر الذي يغرقه، ملقيا سبابا مكتوما قبل أن يمد كفه ضاغطا على زر استدعاء هاجر لمكتبه مجددا، لاستكمال امضاء الأوراق الهامة التي تركها، وهو يكرر على نفسه، تلك الأوامر التي عليه تنفيذها بحذافيرها..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩١..
تطلع كل من حبيب ومدثر صوب أنس الوجود التي كانت تقف في ثبات، ما دفع حبيب لترك خناق مدثر في بطء، متسائلا في دهشة: بتجولي چوزها!.. كيف يعني!..
ردت أنس في نبرة مندهشة: ايوه هي مش متجوزة! وجوزها كان مسافر! رجع و..
هتف حبيب في حنق: رچع فين يا أستاذة! حصل ميتا ده!.. لا هي جالت لمخلوج إنه عاود، ولا حد لمح له طرف!..
أكدت أنس في هدوء: نجية قالت لي إنه رجع في الليل، بات ليلة واحدة فبيته والصبح مشي وهي مشفتهوش.. ده حتى مسلمش على سالم ابنه..
تطلع حبيب نحو مدثر، الذي صار وجهه يضاهي الموتى شحوبا، فما يحدث يعد ضربا من جنون، ما دفع حبيب ليشير لمدثر ليجلس خشية عليه من أثر التفاصيل التي يسمع، بينما عاد متوجها نحو أنس مجددا، متسائلا: هو في حد غيرك يعرف الموضوع ده يا أستاذة!..
هزت أنس رأسها نفيا، مؤكدة في رزانة: لأ، محدش يعرف حكاية حمل نجية دي إلا أنا وانتوا دلوقت..
هتف حبيب في محاولة لضبط النفس والهدوء حتى يستطيع التفكير في كيفية الخلاص من هذه المعضلة: طب تمام، محدش ينطج بكلمة لأي مخلوج لحد ما نشوف هنخلصوا من الموضوع ده كيف..
هتفت أنس متعجبة: موضوع ايه! هو ليه أنا حاسة إن فيه توتر ملوش لازمة، واحدة حامل من جوزها، ايه الغلط في ده!..
هتف حبيب زاعقا: ده عين الغلط يا أستاذة، واحدة چوزها كان غايب فوج الخمس سنين، لا حد شافه ولا سمع عنه طول مدة غيابه دي، ده حتى في ناس جالت إنه مات، لما طول الغيبة، تجوم نچية تطلع تجولهم أبو ولدي كان هنا، بيت ليلة وغار، كنه لبس طاجية الإخفا، وإنها حامل منِه دلوجت، محدش هيصدجها، وكله هيرميها بالباطل.. فهمتي يا أستاذة، ولا لازما أجول أكتر!..
انتفض مدثر مؤكدا: أني هتچوزها واللي يحصل يحصل، المهم محدش يچيب سيرتها بالباطل أبدا..
استغفر حبيب متطلعا صوب صاحبه، وزعق في حنق: تتچوز مين يابو الشهامة! أنت مسمعش بتجول لك چوزها موچود ورچع، أني مصدج كلام نچية، لأني عارفها زين.. متعملش حاچة عفشة، لكن ناس النچع هيصدجوا!.. ده ألف لسان هيمسك سيرتها بالباطل، وتجولي تتچوزها.. ربك يستر ع اللي چاي..
تطلع مدثر نحو حبيب في قلة حيلة، مدركا أن حديث صاحبه واقعيا بالفعل، وأن نجية وقعت في ورطة الله وحده يعلم كيفية النجاة منها.. ما دفعه ليهرول مبتعدا نحو باب السراي.. ولم يستجب لنداء حبيب ليستوقفه، ما جعل حبيب يتنهد في حسرة على تلك الحال التي لا يحسد عليها صاحبه.. هتفت أنس متسائلة في فضول: هو مدثر صاحبك بيحب نجية من امتى! ..
تطلع حبيب نحو أنس في نظرة مطولة قبل أن يقطعها سائرا نحو أريكته المفضلة تحت التعريشة، لتنضم له جالسة على أريكتها المفضلة كذلك، مستطردة في محاولة لسماع الحكاية: واضح إنه بيحبها أوي لدرجة إنه عايز يتجوزها عشان يخلصها من الورطة اللي هي فيها دي!
هز حبيب رأسه موافقا: ايوه، حكاية جديمة، عمرها سنين، لكن لسه مخلصتش، حبالها لسه ممدودة ومحدش عارف هتكون نهايتها على ايه!..
تطلعت أنس الوجود نحو حبيب متسائلة في نبرة متعجبة تحمل بعض الشجن: هو ليه كل قصص الحب في بلادكم صعبة!.. نجية واللي حصل لها مع مدثر وورطتها اللي هي فيها دلوقت أساسها الحب، ابن العمدة اللي من أول ما أتأكد إن مفيش أمل إنه يرجع منيرة وإنها ضاعت منه للأبد، ادروش ومبقاش على بعضه، وعلى حسب ما سمعت، عقله خف، وأمه بتدور له على عروسة يمكن هي اللي تخرجه من حالته دي، السرايا دي نفسها، اتقامت رمز للحب بعد حكاية فراق طويلة، زي ما حكت لي نجية ف مرة، حتى زفراني المجذوب، عقله راح بسبب الحب.. هو الحب ليه بيدمر أصحابه كده!..
هم حبيب بالرد عليها، إلا أن صوت زفراني علا مجلجلا من خلف أسوار السراي، مترنما في سلطنة:
يا بهية وخبريني يا بوي عن حال العاشجين..
حبيت والشوج كاويني يا بوي، وإن بحت أبوح لمين!.. ليلي عيني.. وإن بحت.. أبوح لمين!..
هل زفراني نحو مجلسهما، ولم يلق التحية حتى، مندفعا صوب موضع صحن طعامه المعتاد، محتضنه وهو يجلس بأحد الأركان يأكل في شهية كبيرة كما هي عادته، ليستغل حبيب الفرصة ليسأله وهو يوجه نظرة جانبية لمحيا أنس التي كانت تتطلع لزفراني في شفقة: تجول ايه في العشج يا زفراني!..
تنبه زفراني متطلعا صوب حبيب، تاركا صحن الطعام جانبا، هاتفا في نبرة لم تكن معتادة على مسامعهما من ذاك المجذوب الجهوري النبرة: هجول ايه.. العشج بحر هايچ ومركب الجلب شراعها متمزع.. وعلى حسب هوى الريح.. المركب بتولي..
ساد الصمت لبرهة، قبل أن ينهض زفراني مغادرا، وكأن الحديث لم يكن على الهوى، أو ربما مس وترا موجعا بروحه، تاركا أنس وحبيب تغمرهما الدهشة بكلماته التي تقطر حكمة، وهو يغادر مترنما: يا بهية وخبريني يا بوي عن حال العاشجين.. حبيت والشوج كاويني يا بوي وإن بحت.. أجول لمين!.. وإن بحت.. أجول لمين!..
يتبع...