-->

رواية جديدة لا يليق بك إلا العشق الجزء الثاني لسماح نجيب الفصل 1 - 2

  

رواية جديدة لا يليق بك إلا العشق الجزء الثاني

من قصص وروايات الكاتبة سماح نجيب

الجزء الثاني من رواية لا يليق بك إلا العشق



رواية جديدة


تابع قراءة الفصل الأول





لم يهب لنجدتها بهذا الوقت سوى عقلها ، الذى إستطاع حرق تلك المشاعر التى زارتها بلحظة من الضعف ، فما أن فتحت عيناها ورآت إبتسامته ، التى ملأت وجهه ، من أنه متيقن بأنها لا تقصد كل ما تفوهت به وأنه مازال يملك تأثير على عواطفها ، جذبت يـ ـدها من يـ ـده بإصرار وألحت عليه بضرورة الخروج ، فلم يتشدد عمران برأيه فى البقاء وخرج وهو لديه إقتناع بأنه ما أن يفرط فى تقديم إعتذاره وأسفه ، سيجدها تعود إليه سريعاً 

ولكن ما أن خرج من الغرفة وأغلق الباب خلفه ، قالت ميس بإصرار :
– مش هخليك تضحك عليا يا عمران ولا أنك تأثر عليها بعمايلك دى وندمك 

فهو واهم ولا يعلم بأنها أخذت قرارها الذى لا رجعة فيه حتى وإن مازالت تشعر بالحب نحوه ، فالفراق بينهما سيحدث سواء شاء بذلك أم آبى ، فهى لن ترتضى بأن تكون زوجة مهدورة الكرامة والكبرياء حتى وإن كان هذا تحت مسمى الحب ، فلا حب ولا عشق بين زو جان إلا إذا كان قائمًا على المودة والإحترام وأن يحترم كل منهما مشاعر الأخر ، فإن كانت هى أخطأت بأنها سلكت مسلك العناد ، فخطأه هو لا يغتفر ، خاصة وأنها ذهبت إليه رافعة راية السلام ، وقبلها كانت تمهد الطريق لعودتهما ولكن هو من تجاهل الأمر ، فهما عنيدان وكل منهما معتز بكبرياءه ولا يقبل خضوعه للأخر ، وربما ستظل تلك هى مشكلتهما الأزلية 

❈-❈-❈

لم يدوم طويلاً توسلها للحارس بأن يجلب لها الماء ، فعلى الرغم من إقامتها الجبرية بتلك الغرفة التى تشبه القبو ، إلا أنها لم تلقى مهانة من أحد أو سوء معاملة ، فهى تظن أن ربما قاطنى القصر  اكتشفوا حقيقة أمرها ، وإلا ما كان أمر رياض النعمانى بأن يتم إحتجازها بهذا القبو ، حتى يبت بأمرها لاحقاً ، فتلك الحالة من الهرج والمرج السائدة بالقصر منذ إختفاء راسل وابنته ووفاء ، لا يبدو أنها ستنتهى بوقت قريب ، بل سيظل رياض النعمانى يتحرى الدقة حتى يكتشف سر إختفاء ولده وحفيدته ، ولم يكن إختفاء راسل هو الأمر الوحيد الذي يستدعى القلق والإهتمام ، بل تلك الحالة من الإغماء التى أصابت حياء بعد علمها بإختفاء أحباءها دفعة واحدة ، وصارت غرفتها كأنها غرفة للفحص الطبى ، من دخول وخروج الأطباء ، الذين يوصى رياض النعمانى بجلبهم من أجل زو جة إبنه ، فجميع الأطباء أجمعوا و أجزموا على أن تلك الحالة من الإغماء ماهى إلا وسيلة إتبعتها حياء للهروب من واقعها الألـ ـيم 

قالت إيلين بغيظ وكزت على أسنانها بتذكرها حياء وذلك الإهتمام المنصب عليها من الجميع :
– حياء حياء ، كأنها بقت مركز الكون فجأة والكل لازم يدور حوليها 

فلولاها ما كانت هى هنا بتلك الغرفة القذرة ، وكأن رياض النعمانى ، يلقى اللوم بأكمله على عاتقها لما حدث لزو جة ولده ، وإختفاء راسل ، ولكنها لا تعلم أى شئ بشأن إختفاءهم ، فهى تفاجأت مثل الجميع ، بتلك الرسالة التى تركها راسل لأباه قبل رحيله ، فحتى زو جته لم تكن على علم بما ينتوى فعله ، وما أن سمعت نص تلك الرسالة التى تركها ، سقطت مغشياً عليها فاقدة الوعى 

ولكن ما هو سر إحتجاز رياض النعمانى لها هنا ؟ فهو ما أن علم بشأن رحيل ولده وحفيدته ، كان أمره الأول الذى أصدره لرجاله بأن يأخذوها ويضعوها بهذا القبو ، خاصة أنها هى أخر من رآها تتحدت مع راسل قبل إختفاءه ، ولكنها تكاد تصاب بالجنون لتعلم أين ذهب ؟ فإن كانوا يظنون بأنها تعلم مكان تواجده ولا تريد الإفصاح عنه ، فهى تقسم أنها لو كانت تعلم أين ذهب لكانت رافقته دون تردد 

إنتبهت على صوت باب الغرفة يُفتح ويلج منه رياض النعمانى بمفرده ، بعدما أشار لرجاله بالإنتظار فى الخارج ، فحاولت تأدية دورها للنهاية وكأنها لا تعلم لما هى موجودة هنا 

فأقتربت من رياض وعلى وجهها ملامح البراءة والوداعة وهى تقول بصوت خائف مرتجف :

– جدو أنت خليتهم يجيبونى هنا ليه أنا مليش ذنب فى إختفاء راسل ومامته وبنته ومعرفش راحوا فين

وضعت يـ ـدها بإستعطاف على يـ ـد رياض ، فسرعان ما نفضها عنه ونظر لها بجفنين حمراويين لم يذيقان طعماً للنوم أو الراحة منذ قراءته لتلك الرسالة ، فهدر بها بصوت جهورى:
– أخرسى بقى وكفياكى تمثيل هو أنتى مفكرانى أنا مش عارف أنتى مين وبتعملى هنا إيه وأنك أصلاً مش إيلين النعمانى حفيدة إبن عمى
شحب وجهها على الفور بعد سماعها ما قاله رياض ، فصار وجهها شاحبًا باردًا كوجوه الموتى ، فلا إرادياً إرتدت بخطواتها للخلف ، كأنها تأمن بطشه بها بصنع مسافة آمنة بينهما ، وكلما حاولت فتح فمها لتقول شيئاً ، تعود وتضم شـ ـفتيها كأبواب الحصين المنيع

فقالت بجهد بعدما إستجمعت عقلها وشجاعتها :
– ححضرتك بتقول إيه ، وأنا مش إيلين إزاى يعنى ، أنا مقدرة خوفك على إبنك بس صدقنى أنا معرفش حاجة والظاهر أن حضرتك أعصابك تعبانة زينا كلنا

دب رياض الأرض بعصاه عدة مرات ، وعيناه تتفرس بها ، كأنه بخلق تلك الأصوات من إرتطام العصا بالأرض ، سيزيد من شعورها بالخوف منه ومما يمكن أن يفعله بها ، وسيلة يتبعها من أجل خلق جو نفسى متوتر ، يجعلها تشعر بالإنهيار سريعاً ولا تجعله يبذل جهد زائد فى جعلها تبوح بكل ما لديها 

لوى رياض ثغره وقال بهدوء لا ينم على شئ سوى أن هناك عاصفة قوية بالطريق إليها :
– أنتى مفكرة نفسك بتضحكى على مين يا شاطرة ، دا أنا رياض النعمانى ،ولا أنتى قولتى فى نفسك أنتى واللى بعتك إن خلاص دا كبر وخرف وعقله مبقاش فيه ، وأن هصدق إنك من العيلة ، اللى متعرفهوش يا شاطرة ، إن أنا أعرف مين إيلين النعمانى واللى برضه متعرفهوش إن أنا سافرت روسيا وأنا اللى جوزتها لجوزها لأن والدها متوفى وهى بعتتلى علشان أكون جمبها فى اليوم ده ، بس الظاهر الغبى اللى بعتك معملش حسابه ولا عرف معلومة زى دى ، اعتمد بس على إن إيلين سابت إسكندرية من عشرين سنة وأن العلاقات بينا مقطوعة 

جحظت مقلتيها وهى تنظر بوجهه ، ورغم ذلك تساءلت بدهشة :
– بس إزاى وكل اللى هنا صدقوا إن أنا إيلين حتى ولاد أخوك عاصم وسوزانا 

رد رياض قائلاً وهو ينظر إليها بطرف عينيه :
– أينعم مليش طولة بال أرغى معاكى ، بس هقولك إيه السبب فى أن محدش فيهم شك فيكى ، علشان هم ميعرفوش إن أنا سافرت لإيلين والوقت اللى سافرت فيه روسيا ، كان عاصم وسوزانا وميس مسافرين بيقضوا اجازة فى أوروبا ، وجاتلى الدعوة من إيلين فجأة ، فسافرتلها على طول وحضرت الفرح ورجعت ، قبل هم ما يرجعوا ، ومرضيتش أقولهم لأن فى الوقت ده الدكاترة كان مشددين عليا مجهدش نفسى بالسفر ، وأنتى شوفتى ميس وولاد أخويا بيخافوا عليا قد ايه فمحبتش يعرفوا ويفضلوا يجادلوا معايا ، ريحت دماغى يعنى من النقاش ، فلما حضرتك جيتى وقولتى أنك إيلين بالاثباتات المزورة اللى معاكى فى نفس التوقيت اللى حصل فيها البلاوى دى كلها مع راسل ومراته كان لازم أعمل نفسى مصدقك علشان أعرف إيه اللى وراكى ، فعلشان كده أحسن ليكى تقولى كل اللى تعرفيه عن سبب إختفاء راسل أو ليه هو عمل كده

صُدمت من سماع حديثه من بدايته لنهايته ، فحقاً هو مثلما سمعت عنه رجل شديد الذكاء والحنكة والحكمة ، ولكن سذاجتها هى وديفيد خيلت إليهما أنهما إستطاعا خداعه بسهولة ، فإن كانت سمعت عن شدة ذكاءه ، فسمعت أيضاً عن عقابه الذى ينزله بمن تخول له نفسه أن يمسه بسوء ، فأين ذلك الأحمق والوغد المدعو ديفيد ليخلصها من بين براثن رياض النعمانى 

أنسكبت دموعها رغماً عنها بعد تخيلها لذلك المصير ، الذى من الممكن أن تلقاه على يـ ـده ، فقالت بعدما أنحنت على يـ ـده تحاول  تقـ ـبيلها لعلها يعتقها أو يخلى سبيلها :
– أحلفلك بإيه أن معرفش راسل سافر فين ، وإيه اللى يخليه يسيب البلد كلها ويسافر ، والله ما أعرف حاجة ، أينعم أنا كنت معاه أمبارح بالليل فى الجنينة ، بس كلامه معايا كان عادى وقالى أنه مش هيقدرى يتجوزنى بس هى دى كل الحكاية ، ويمكن الوحيدة اللى لازم تسألها هى حياء لأنها هى اللى كانت مقضية الليلة معاه ، ليه متسألهاش هى وبتسألنى أنا

سحب رياض يـ ـده من بين كفيها وزجرها بغضب :
– الظاهر كده أنك حابة تأنسينى شوية وشكل قاعدتك هنا مطولة ، هسيبك شوية تفكرى قبل ما أدى أوامرى لعاصم ورجالته يتصرفوا معاكى وأنتى متتخيليش ممكن يعملوا معاكى إيه 

خرج رياض من الغرفة ، فى حين أن أحد رجاله أوصد الباب بإحكام ، فجلست على ذلك الفراش الشبه متهالك وهى تفكر جدياً فى تهديد رياض لها قبل خروجه ، فإن كان حاولت إستعطافه لتركها متذرعة بأنها لا تعلم شيئاً ، إلا أنها ربما تعلم السبب الذى دفع راسل للرحيل ، ولكنها لم تضع ببالها أنه سيأخذ بحديثها جدياً ، فهى لم تفعل ما فعلته إلا من أجل إفساد علاقته بزو جته وربما يحدث بينهما الطلاق ولن يعود لحياء مكان بقلبه وحياته ، وستكون فرصتها الذهبية فى التقرب منه ، ولكن كأنه سأم الجميع وأخذ ما يعنيه من أحباءه ورحل ، غير عابئ بما تركه خلفه 

فبالطابق الثانى من المنزل وبتلك الغرفة التى كانت غرفة راسل الخاصة ، وسكنتها حياء برفقته فى الأونة الأخيرة ، كانت مستلقية على الفراش لا حول لها ولا قوة ، فبعد خروج الطبيب ، الذى رافقتاه سوزانا وغزل ، صارت حياء فى الغرفة بمفردها ، تتلاعب الشياطين بأحلامها ، تشعر كأن جـ ـسدها مكبل بأغلال ولا تستطيع الفكاك منها ، تحاول أن تصرخ فلا يصل صوتها لأحد ، تركض بمتاهات ولا تجد سبيل للخروج ، ولكن وسط كل تلك الأحلام المزعجة ، إستطاعت فتح عينيها وظلت تحملق بالفراغ ، فعمل عقلها وذاكرتها على إسترجاع تلك الأحداث التى حدثت بمنزل عمها " أدريانو " بعدما رآت أثار الدم 

عودة لوقت سابق 
رائحة العطر النفاذة ، التى أخترقت طاقتى أنفها ، جعلتها تفتح عيناها على الفور وهبت جالسة بالفراش وهى تصرخ منادية بإسم زو جها :
– رااااااسل 

ولكن إنتبهت أنه جالساً بجانبها على الفراش ، فراحت يـ ـديها تتحسس وجهه ، لتتيقن من أنه بجوارها حقاً وليس طيفاً أو شبحًا يشبهه ، فراحت تسأله بلهفة :
– راسل إنت كنت فين أنا لقيت الدم على السرير والأرض كنت فين 

عقد راسل حاجبيه قائلاً بدهشة:
– دم إيه اللى على السرير والأرض يا حياء مفيش حاجة ، وأنا كنت برا فى الجنينة مستنيكى تخلصى الشاور بتاعك ، بس لقيت عمك أدريانو بيناديلى أنك مغمى عليكى ، فجيت علشان أفوقك وأشوف إيه اللى حصلك

فغرت حياء فاها مما سمعته منه ، فهى رآت الدم على الفراش والأرض ، وتتذكر تلك الإبتسامة البشعة التى رآتها على وجه عمها قبل إغماءها ، فما معنى كل هذا ؟ فهل فعل عمها كل هذا من أجل إرهابها وأن يجعل الخوف يسكنها من أنه قادراً على إيذاءه ، أم ماهو المغزى الحقيقى خلف كل ما حدث لها ؟

وضعت طرف إبهامها بين شفتيها وهى تقضم ظفرها ، لتحاول إيجاد تفسير لما حدث ، إلا أنها سمعت راسل يقول ، بعدما ترك الفراش وأتجه صوب تلك الحقيبة ، التى راح يلقى بها ثيابهما بعشوائية :
– يلا بينا يا حياء نمشى علشان بنتى وماما وحشونى ، ومش عايز أسمع منك كلمة ، لو مش عايزة ترجعى معايا خلاص خليكى أنا ماشى

لا تعلم سر تصرفه الجاف معها ، ولكن ربما هو أصابه الضيق من شقيقها وعمها ، فلم تجادله بل نهضت وأمتثلت لأمره ، وأطمئنت على بيرى وذهبا سريعاً من منزل أدريانو وعادوا لمنزل رياض النعمانى ، فقضيا سوياً تسعة أيام، لا تفهم سبب تصرفاته الجافة معها ، وبمساء اليوم العاشر أصر على أن يقضيا سوياً ليلة حالمة ملحمية زخرت بالعشق والشوق ، كأنها ليلة لم تمر بحياتهما سابقاً ، ولكن ما أن إستيقظت من نومها العميق ، وجدت تلك الرسالة التى تركها لها ولأبيه قبل رحيله 

فما أن وصلت بذاكرتها لذلك الجزء المتعلق بالرسالة ، ظلت تصرخ وتنوح بقهر ، فجلست بالفراش ولفت ذراعيها حول ركبتيها ، ولكن لمحت تلك الرسالة الورقية ملقاة قريباً من الكومود ، فبلهفة تركت الفراش وجلست على الأرض وأخذت الرسالة لتقرأها ثانية ، لعلها تتمعن بحروفها ، وتفهم لما فعل راسل ذلك ؟

فراحت تقرأ الرسالة بنبرة مرتعشة من أثر بكاءها المكتوم:
– والدى العزيز - زو جتى العزيزة ، لقد كنت أرحل دائمًا دون إبداء أسباب لرحيلى ، ولكن تلك المرة ، لا أعلم أى شيطان وسوس لى جعلنى أخط بيدى تلك الرسالة ، ولكن ربما أردت جعلكما تشعران بتلك النيران التى شبت بقلبى وأحرقته ، فمثلما سأعانى ، ستعانيان أنتما أيضاً من رحيلى أنا وإبنتى وأمى ، فلم يعد لدى الصبر الكافى لأن أحيا بتلك الكذبة الجميلة التى صنعتها أنتَ و زو جتى من وهم حبكما لى ، فلا تحاولان البحث عنا ، فأنا أخذت كافة الاحتياطات اللازمة لرحيلى من الإسكندرية ، فلو شعرت يوماً بأنك كدت تصل إلينا ، سأحاول الفرار منك حتى لو رحلت لأقصى أطراف الأرض ، فمن الأفضل أن تتركانى أحيا بهدوء مع إبنتى وأمى فأنا لم يعد يعنينى أمر أحد غيرهما 

ضمت حياء الرسالة لصدرها وهى تقول بصوت نائح :
– طب أنا عملت فيك إيه ووهم إيه اللى عيشتك فيه ، ذنبى إيه أنا علشان تسيبنى ، ذنبى إيه أعيش من غيرك أنت وبنتنا ؟ ليه عايز تحرق قلبى يا راسل ؟

صاحت بشق عبارتها الأخير ، كأنها بإنتظار أن يجيبها أحد على سؤالها ، فهى لم تفهم شيئاً من رسالته المبهمة ، سوى أنه رحل بغير عودة ، وأنه رحل لظنه بها السوء ، ولكن ماذا حدث جعله يفكر هكذا ؟ 

أسندت ظهرها للسرير وهى جالسة مكانها على الأرض ، فنظرت للخارج ، عبر باب الشرفة المفتوح ، وظلت تحدق بالسماء التى أختفت منها النجوم ، وأصبحت معتمة ومظلمة ، تثير بنفسها الإنقباض والخوف ، فعيناها جامدتان ، كأنها تبحث عن بارقة أمل وسط ذلك الظلام الذى كسا السماء بثيابه السوداء ، فلم عادا ثانية لتلك اللعبة المنهكة للقلوب والأعصاب ؟ وما تلك الأسباب القوية التى دفعته للرحيل ؟ فما تعرفه عن قوة تحمله وصموده ، يجعلها متيقنة من أن ربما هناك دافع قوي وراء تصرفه هذا ، فراسل ليس ذلك الرجل ، الذى ينفعل سريعاً ويأخذ بظواهر الأمور ، دون التمعن ببواطنها ، مثلما حدث بينهما عندما حاولت إيهامه بأنها أسباب رحليها عنه كان من أجل المال ، فأحبط تماديها بكذبتها ولم يصدق أقوالها وأفعالها ، فهو حتى لم يكلف نفسه عناء إخبارها بما فعلته وجعله يأخذ قراره بالرحيل ، كأن ذلك إحدى أدواته بتعذيبها ، بأن يجعلها تظل تفكر ماهو الخطأ الفادح الذى أرتكبته بحقه وجعله يهجرها هكذا دون وخز من قلبه أو ضميره بعد تلك الليلة الحالمة التى قضتها برفقته؟


❈-❈-❈


أغلق أزرار سترته وحمل صغيرته التى غفت بين ذراعىّ وفاء ، فهو يعلم بشأن إصابتهما بالإنهاك والتعب ، نتيجة تنقلهم من بلد لأخر ، فبعد وصولهم من الإسكندرية للندن ، لم يمكثوا سوى سويعات ومن ثم رحلوا لبلد أخر ومنه لدولة أخرى ، وساعده بذلك بعض علاقاته ونفوذه ، فهو يريد أن يفقد أبيه أثره ولا يعثر عليهم ، فهو لا يريد العودة للإسكندرية مرة أخرى ، حتى وإن كان ترك قلبه هناك ، تركه بين يديىّ معـ ـذبته ، التى ستظل دائماً وأبداً ندبة بقلبه لن تندمل 

زفر راسل زفرة مطولة وأغمض عينيه ريثما يمر طيفها ، الذى رآه منعكساً على زجاج إحدى نوافذ تلك السيارة التى أشار إليها بالتوقف ، حتى تقلهم لذلك المنزل ، الذى إبتاعه بدون علم أحد ، فتخطيطه لترك الإسكندرية ، والإستقرار بإحدى الدول الأوروبية ، لم يستلزمه سوى عشرة أيام فقط ، ولا يعلم كيف بتلك المدة الزمنية القصيرة ، تمكن من تنفيذ كل هذا ، ولكن ربما المال قادراً على فعل المعجزات ولما لا وهو الوريث لإمبراطورية النعمانى 

ترجل السائق وبعد تبادل بضع كلمات مع راسل ، حمل الحقائب ووضعها بصندوق السيارة ، وجلست وفاء بالمقعد الخلفى ، ووضع راسل سجود بين ذراعيها ، فقبل إبتعاده ليجلس بجوار السائق ، نظرت إليه وفاء وتساءلت بصوت منخفض ، كأنها تخشى سماع السائق لسؤالها :
– إحنا رايحين فين تانى يا بنى ؟ إحنا عمالين نتنقل من بلد لبلد زى اللى بيهرب من حد بيجرى وراه

رمقها راسل بنظرة إشفاق ، ورد قائلاً وهو يمسد على خصيلات صغيرته النائمة:
– خلاص ياماما مش هنروح مكان تانى ، إحنا هنوصل البيت وهترتاحوا، ومعلش لو كنت تعبتوا ، بس هانت دلوقتى هنرتاح كلنا وخلاص مش هنروح لمكان تانى 

قبل سحب يـ ـده شدت وفاء عليها وقالت وهى تمعن النظر به :
– وأخرتها إيه يا راسل 

ربت راسل على يـ ـدها وإبتسم بوجهها قائلاً بهدوء :
– لما نوصل البيت نبقى نتكلم يا ماما 

إستقام بوقفته وأغلق باب السيارة الخلفى ، ففتح الباب المجاور للسائق وأتخذ مقعده بجواره ، وأخبره بالعنوان الذى يريد الوصول إليه ، فأنطلق السائق بالسيارة يقودها بمهارة ويسر ، وظل راسل ينظر من النافذة ، فهنا لن يعرفه أحد ، وربما لن يستطيع والده الوصول إليه ، على الرغم من أنه ليس متيقنًا من ذلك ، فهو يعلم إلى أى مدى يصل نفوذ أبيه

غفت عيناه رغماً عنه من شعوره بالإرهاق ، ولكنه إستفاق من غفوته بعد سماع صوت السائق يخبره بشأن وصولهم ، فدفع ما عليه من نقود وترجل من السيارة وساعده السائق بإخراج الحقائب، ترجلت وفاء هى الأخرى وهى تأن بصوت منخفض من شعورها بألم وتيبس عظامها ، ولكن إنتبهت على ذلك المنزل الذى لم يكن بضخامة منزلهم بالإسكندرية ولكن يكفيهم ، فالحى بأكمله كل المنازل والبيوت به متشابهة تقريباً ، وربما لا يفرق بينهما إلا ألوان الطلاء و الأرقام التى تم وضعها على باب المنزل 

حمل راسل الصغيرة عنها قائلاً وهو يشير لها بالدخول :
– تعالى يا ماما يلا أدخلى 

نظرت إليه وفاء وتساءلت:
– هدخل إزاى هو إحنا معانا مفتاح يا إبنى 

إبتسم لها راسل ورد قائلاً بهدوء :
المكتب اللى إشتريت منه البيت ، قالى أن ساعة ما أوصل هيكون فى حد مستنينى علشان يسلمنى البيت والمفاتيح ، أدخلى يا ماما متقلقيش

ولجت وفاء وهى تجر حقيبتها وحقيبة سجود ، يتبعها راسل وهو يحمل سجود التى مازالت نائمة ، ويجر حقيبته بإحدى يـ ـديه ، فسرعان ما وجدوا باب المنزل يفتح وتخرج منه إمرأة تبتسم لهما بترحيب ، فبعد تبادلها الحديث مع راسل لمدة خمسة عشر دقيقة ، أثناء إصطحابه هو ووفاء بجولة لرؤية المنزل ، ناولته المفتاح والأوراق الخاصة بملكية المنزل وخرجت ، فوضع راسل سجود فى الفراش بتلك الغرفة التى ستكون خاصة بها ، وهبط الدرج للأسفل وأرتمى على إحدى الأرائك وأغمض عينيه بإرهاق شديد ، ولكن سمع صوت أقدام وفاء قادمة ، ففتح عيناه على الفور 

فحدق بها متسائلاً بجدية:
– حلو البيت يا ماما عجبك 

جلست وفاء على مقعد مقابل لتلك الأريكة الجالس عليها، وردت قائلة بحيرة :
– هو حلو يا راسل ، بس أنا لحد دلوقتى مش قادرة أفهم أنت ليه بتعمل كده ، وليه خليتنا نسيب إسكندرية ، أنت لما قولتلى أنك هتسيب البلد أنت وسجود وأنا ، سمعت الكلام من غير نقاش علشان أنت عارف مقدرش أعيش من غيركم ، وعلشان أنا كمان عرفاك وعارفة أن دماغك ناشفة ، ولما سألتك ليه سيبت حياء مرضيتش تقولى ، فليه عملت كده وسيبت مراتك حبيبتك اللى أنا متأكدة أنك متقدرش تعيش من غيرها ، دا أنت كنت بتموت لما بعدت عنك شوية 

أظلمت عيناه وأكفهرت ملامحه فرد قائلاً بنبرة 
وحـ ـشية :
– علشان لو كنت فضلت فى إسكندرية كنت قتـ ـلت حياء 


يتبع..

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة سماح نجيب من رواية لا يليق بك إلا العشق، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية و حكاية


رواياتنا الحصرية كاملة