-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 2 - 1 - الجمعة 29/11/2024

 

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش



الفصل الثاني

1

تم النشر الجمعة

29/11/2024


 أرض البركة..

❈-❈-❈


الرسلانية ١٩١٤..

أبصرت عيناه مدخل النجع، كانت الأرض بطول الطريق تشي بموسم الفيضان الذي ولى، وحان أوان الغرس والزرع، الظهور المنحنية، والرؤوس المنكسة لعمال الوسية هناك على مدد البصر فوق أراضي الغيطان الوحلة قليلا، بعد أن كانت هذه الأرض غارقة في مياه النيل الثائر لأشهر، والذي أبعد هؤلاء التملية والفلاحين عن العمل بها، ودفعهم لشغلهم مع عمال التراحيل بحثا عن لقمة العيش في حفر الترع والقنوات، أو بناء الجسور في مدن ونجوع آخرى، حتى عودتهم إليها من جديد حين غاصت الأرض بمائها وخبت بعضه بباطنها وأصبحت صالحة لاستقبالهم بأزرع منفرجة، ليعودوا مقبلين في فرحة وكأنهم ما ابتعدوا قط، كل هذا جعله يدرك في لحظة عمق وتأمل، أن الأرض تتبدل يوميا، وما من أمر يبقى على حال، وأن التغيير هو سنة الله في كونه، وقد أقام الله على أساسه كل ما يحيط بالإنسان من تعاقب ليل ونهار، وتتابع لفصول السنة الواحدة، وكذا حياة الإنسان، وقد اختبر التغيير مرات في حياته هو ذاته، جعلته يدرك أن لا مفر منه، وعليه تقبله مهما كانت نتائجه غير متوقعة، أو توابعه غير مقبولة، فلعل في ذاك الخير ولا يدري.. 

ابتسم في شجن وقد تخطت عربته حدود النجع، لكن حتى تلك الابتسامة الشجية غابت وغام وجهه بتعابير شتى عندما سقطت عيناه على تلك الشواهد البعيدة فوق التلة المتوسطة الارتفاع لقبور غالية، هاج القلب وأمرت الروح وشعر بالرغبة في الوصل، ما دفعه ليأمر خادمه بالتوقف على حين غرة: وجف يا مصباح، وجف.. 

تنبه سائق الكارته لأمر سيده، جاذبا لجام الفرس العفية أمرا إياها بالتوقف، فسكنت من توها، عدل هو من وضع عباءته فوق كتفيه، وبدأ في الترجل عن الكارتة مستعينا بعصاه الآبنوسية التي يستند عليها لغرض الوجاهة لا أكثر، فهو أشد من أن يحتاج لمثلها لتعينه على المسير، وما له من العمر لم  يتجاوز الأربعين ربيعا على أي حال.. 

صعد التلة القريبة في سلاسة معتادة، واقترب من الشواهد حتى أضحى قبالتها فوقف في صمت يتطلع لها مدركا كنه قاطنيها دون أن يكون هناك أثر لاسماء معنونة على كل شاهد.. 

هنا يرقد كل من كان له في هذه الحياة، زهيرة زوجته الأولى، أول الفرح، وبداية العنفوان، ويجاورها مباشرة عنقود الهيبة الذي انقطع ذكره بانفراطه، ولديه سعيد وحامد، غامت عيناه بالدموع، اثنتا عشرة سنة ولت منذ رحيلهم، ولكن نيران الفقد بالقلب لا تزل مستعرة لم تخب أو حتى ينمحي أثر ندبة الفقد من على جدران الروح، حصدتهم الكوليرا اللعينة مع من حصدت في غفلة منه وقد كان في تلك الفترة خارج النجع لبعض أعماله، يباشر بورصة القطن التي كان مضاربا فيها للمرة الأولى، كان يوليها جل اهتمامه بذاك الوقت مخافة الخسارة، ولم يخسر بالفعل بل على العكس تضاعفت أرباحه وزادت ثروته، لكن ما أن فكر في العودة فرحا لأحضان العائلة مكللا بالنصر، إلا وقابلته هزيمة من نوع آخر، هزيمة في معركة ما كان فيها منتصرا أبدا، فالنتيجة محسومة لصالح القدر، الذي لم يمهمله وداعهم جميعا، ومنعه رجال الحجر الصحي الذي تم فرضه على النجع ما أن ظهرت به الحالات المصابة تباعا، ليرى أمام ناظريه جثمان زوجه وكذا ولديه واحدا تلو الآخر يودع قبره، ليضمه مثواه الأخير وهو عاجز على ضمهم لصدره ووداعهم للمرة الأخيرة.. 

سالت دمعة باغتته هاربة فتركها لحال سبيلها تنحدر على جانب وجهه حتى سقطت وانتهى أمرها.. متذكرا صوت ولديه ولحظات شجارهما وعنفوانهما وخلاف أمهما معهما، وفخرها أنها أنجبت رجلين لسيد الرجال، كما كانت تصفه.. اقترب من شاهد قبر زهيرة، وربت على الشاهد في حنو، قبل أن تباغته دمعة آخرى فرت على خده، اغتالها في سرعة بظاهر كفه، وهو يتطلع ساهما لقبري ولديه.. 

تحرك لخطوات قليلة لليمين، قبل أن يتوقف من جديد مثبتا ناظره على قبر واحد، تطلع له لفترة ليست بالقصيرة قبل أن يهمس لصاحبته: آه يا سعدية، روحتي وخدتي أمانتك معاكي، كنك بخلتي عليا به، وخفتي على وحدتك، فخدتيه وياكي يونسك، وفوتوني لحالي! 

كانت سعدية هي زوجته الثانية، التي التقاها بعد سنوات من حزنه على زوجته زهيرة وفقيديه، كان زواجه منها مدبرا حتى تستطيع أن تجذبه بعيدا عن أحزانه التي غرق فيها لسنوات، واستطاعت بالفعل إلا أن القدر كان له رأي آخر، وضن عليه بتلك السعادة قصيرة العمر التي عاشها فترة زواجهما، سنة بالتمام و الكمال من الفرحة، لكن ما أن حان موعد ولادتها، حتى وافتها المنية وما استطاعت قذف جنينها للدنيا ليكون عوضا عمن رحلوا، ونسا له وامتداد يحمل اسمه الرنان، فمات وما انفصل عن أمه، بعد أن حاولت القابلات ما استطعن، لكن حكم الله كان هو النافذ، ليخسر زوجته الثانية وجنينها قبل أن يرى النور، وغرق من جديد في بحر أحزانه الذي ما انتشله منه مخلوق حتى اللحظة، يدعي أنه شديد وقادر على تحمل ضربات معول القدر الذي يفت في صلابة قلبه، لكن ما أن يخلو لنفسه، حتى تتراقص أشباح الذكرى قبالة ناظريه، موقدة في جوانب نفسه الحسرة والوجيعة، التي كان يتشاغل عنهما بالمزيد والمزيد من الأعمال والمكاسب.. 

تقهقر خطوة للخلف، وتوقف رافعا كفيه مرتلا الفاتحة في صوت رخيم، حتى إذا ما انتهى مسح وجهه بباطن كفيه ممسدا على كتفيه وصدره، متنهدا في وجيعة، ملقيا نظرة أخيرة على الأحباب.. قبل أن يولي عائدا صوب الكارته التي كان ينتظره بها خادمه مصباح، أو بالأدق عبده الحبشي، فقد اشترى جده عبدالمجيد رسلان، والد مصباح من ساحة بيع العبيد في سوق أسيوط منذ سنوات بعيدة، ترجع تقريبا لزمن الخديوي إسماعيل، وظل والد مصباح وكذا زوجته التي كانت أمْة كذلك.. وأولادهم وأحفادهم عبيد في خدمة جده وأفراد عائلته العريقة السلسال حتى هذه اللحظة.. 

صعد العربة ودون أن ينطق حرفا لكز مصباح الفرس بطرف كرباجه، فتحرك في هوادة على طول ذاك الطريق الضيق، الذي اتسع قليلا لتظهر هناك تلك الأرض الشامخة التي ما كان يطالها ماء الفيضان مهما علت ثورته، كانت تطال كل الأرض التي تحيط بها فتحيلها لأرض سبخة وموحلة إلا هذه التلة البعيدة التي ما عرف يوما سرها، ولما هي مرتفعة بهذا القدر فما طالها من الزمن ما طال ما حولها من أراضِ.. 

ضاق الطريق من جديد حتى وصلا أخيرا أمام بوابة إحدى الدور، توقف الفرس من تلقاء نفسه دون أوامر من مخلوق، فترجل مصباح سريعا ووقف بجانب العربة منكس الرأس حتى ترجل سيده بدوره أمرا إياه: فك الفرس من الكارتة يا مصباح خليها ترتاح، أني چاي تعبان ومش خارچ تاني النهاردة.. 

هز مصباح رأسه في طاعة: اللي تأمر به چنابك يا سعد بيه..  

صعد الدرجات الثلاث لذاك البيت الضخم المبني على الطراز الشرقي، والذي يكلل طابقه الثاني الكثير من المشربيات ما جعله أشبه بدور القاهرة الفاطمية منذ مائة عام أو يزيد قليلا.. 

ما أن وطأت أقدامه الدار، حتى هللت إحدى الخادمات لمرآه، ما دفع واحدة من النسوة للقدوم مهرولة من الداخل حيث المطبخ، مهللة بدورها لقدومه، هاتفة في سعادة ظاهرة: حمدا لله بالسلامة يا سعد ياخوي، الدار نورت.. 

ابتسم في محبة لأخته الوحيدة، هاتفا في امتنان: منورة بكِ يا توحيد، تعالي شوفي چبت لك إيه! حاچات ملهاش زي.. 

تهلل وجهها بشرا، وهتفت داعية: إن شالله ما اشتهيك أبدا، كفاية عليا دخلتك دي بالدنيا.. 

أشار سعد لبعض الأغراض التي وضعها مصباح على الطاولة، مؤكدا في هدوء: كل الحاچات دي ليكي، واللي ميعچبكيش وزعيه على حبايبك وياجي لك اللي أغلى منِه يا غالية.. 

اقتربت توحيد من سعد، رابتة على كتفه في محبة طاغية، هامسة في تفهم: والله ما في غالي إلا أنت يا سعد، ربنا يريح جلبك ويچبر بخاطرك كيف ما أنت چابر بخاطري يا واد أبوي، تسلم لي وتعيش يا رب..

دمعت عيناها تأثرا، وهي تقبل كتفه في تقدير جم، قبل أن تستعيد ثباتها المتقن، مطالبة إياه في لهفة: هِمّ على فوج، ارتاح لك هبابة يكون الغدا اتحط، كن جلبي كان حاسس بمچيتك، طابخين النهاردة كل الأكل اللي عتحبه.. 

همس سعد: ماليش نفس دلوجت يا توحيد، أني طالع أنعس، ومحدش يصحيني، ولما اجوم راح أكل.. 

هزت رأسها في طاعة: اللي تشوفه يا خوي، نوم العوافي.. 

تركت توحيد مطرحها متوجهة صوب المطبخ من جديد، تتبعها أنظار أخيها في تحسر، كان يعلم أن حظها من الجمال لم يكن بذاك الذي يغري رجل ليتقدم لخطبتها، كان حظها قليل في هذه الناحية، وصلت لهذه السن متخطية العشرين ببضع سنوات وما حازت على طلب واحد للزواج، وكأن الأرض خلت من الرجال الذين يقيمون المرأة لحسبها ونسبها لا لجمالها فقط.. ذاك الأمر الذي خلق في نفسها شعورا بالدونية تجاه جميع نساء النجع على الرغم من أنها ابنة كبيرهم، فما أن تقع عيناها على صبية تصغرها بسنوات عدة تجر أطفالها خلفها في تيه وفرحة، حتى يأكلها الوجع ويطحن تصبرها على هذا البلاء الذي ما عادت تستطيع عليه صبرا.. 

دقت أقدامه الدرجات حتى دفع بباب حجرته ليدخل مغلقا إياه خلفه في هدوء، وهو يشير صارفا خادمه مصباح الذي كان يتبعه كظله حتى يساعده في تبديل ملابسه والاستعداد للرقاد بعد عناء السفر، فقد كان يرغب الوحدة ولا قبل له على البقاء مع مخلوق، دفع عنه ملابسه متخففا، وذهب إلى ذاك الطشت والأبريق النحاسي، صب لنفسه بعض الماء وبدأ في الوضوء، صلى فرضه، ثم تمدد على فراشه المرتفع ذو الأعمدة المعدنية، الذي تراقص قليلا ما أن شعر بثقله فوق قوائمه، تطلع لذاك السقف البعيد من خلف غلالة الناموسية التلي، هائما في عالم آخر، حتى طلت من خلف حجب الأحداث هاتان العينان العجيبتي النظرة، التي رفعتهما صوبه فارتج فؤاده لبرهة، ذاك القلب الذي ظن أنه أودعه لحده منذ سنوات طوال، والذي ظن أنه فارقه قطعة قطعة مع كل فقد وفراق بينه وبين أحبته، حتى اعتقد أن ذاك الخافق بين اضلعه قد صمت للأبد عن النبض لأجل امرأة مهما كان جمالها.. 

تقلب على فراشه عدة مرات حتى زاره النعاس أخيرا مشفقا على حاله المضطرب، ليغرق في سبات عميق مليء بالأحلام، عيناها الممتنة كانت بطلتها بلا منازع.. 

                       

الصفحة التالية