-->

الفصل السابع - كما يحلو لكِ - النسخة الفصحى

 

الفصل السابع

النسخة الفصحى 

حدقته بفزع لا تستطيع تبين ما تعنيه تلك الابتسامة اللينة التي تختفي بين لحيته الكثيفة ومُقلتيه الصارختين بالشوق، لا تستطيع الانجذاب لمزيدٍ من هذا الهدوء وتلك الملامح بكل ما كنته لها يوم ما من مشاعر، لقد فاق الأمر تحملها ولم يعد عليها التنازل أمامه اكثر من تنازلاتها اللانهائية التي لا تتوقف عنها!


- لماذا تبدين خائفة؟


فاجئها سؤاله لترتبك من نبرته العميقة التي لا تأمن هدوئها لترطب شفتيها ثم اجابته وهي تنهض تاركة الفراش:

- لست خائفة عمر، ولكنني توقعت عودتك غدًا.. ولم أنم كثيرًا، نوعًا ما الأمر اصابني بالفزع، لم أكن ادري أن هناك من يُشاركني الغرفة!


قلب شفتاه وهو يهز رأسه بتفهم وصمت لبرهة محافظًا على هدوئه وبالرغم من كل ما يحثه بداخله على الفتك بها حاول أن يتعامل بهدوء ولم يخش تلك النظرات منها التي دفعته لليقين بأنها ترتعد بداخلها من مجرد رؤيته بعد ما فعلته بشأن دعوى الخلع..


اتجه نحوها مقتربًا بعدة خطوات لتبتلع هي وعسليتها لا تتخلى عن متابعة قدميه وهي تقترب لها اكثر ثم نظرت إليه بتوجس يشع من مقلتيها بينما لم يُظهر أي ردة فعل على ما يقرأه من اضطراب واضح، هي تريد أن تعرف ما الذي سيفعله بشأن تصميمها على الانفصال، وهو لن يحقق رغبتها في مجرد ما يدور بخلده وما يُريد فعله بشأن هذا! هذا فضلًا عن أنه لن يسمح بحدوث الأمر.


وقف امامها مباشرة وتهللت ملامحه لتتعجب بداخلها وسرعان ما حاولت فهم لماذا تلمح بوجهه السعادة وكادت أن تُفكر في اعراض اضطراب ثنائي القطب الذي يُعاني منه وقاربت على تفهم الأمر بأنها قد تكون مجرد نوبة من نوبات الهوس الخفيف الذي هو مشمول من ضمن الاعراض ولكنها تراجعت في جزء من الثانية.. لقد اكتفت من التبرير لتصرفاته غير المفهومة وهي لم يعد بداخلها المقدرة على تلمس المزيد من الاعذار له.. مريض أم لا، يعاني أو هو بأفضل حال، لم يعد هناك بداخلها المزيد من التنازلات تجاهه!


- تبدين مختلفة


فاجئها قوله لترمقه باستغراب وبُترت أنفاسها المتوجسة مما لم تتوقعه ولكنها ادركت أنه يحاول أن يُشتتها بالإطراء على ملامحها وحُسنها لذا سرعان ما نبهت نفسها كي لا تستجيب ونظرت إليه بثباتٍ ناقض اهتزاز قلبها النابض بصخبٍ مما هو قادم معه لتجده يُردف بسؤال وملامح لينة: 

- لماذا ترتدي هذا؟


ارتفعت يده بتلقائية مدروسة تصنعها كي يُزيل هذا الوشاح من فوق رأسها الحاجب لخصلاتها البُنية ولكنه تراجعت للخلف بعفوية منها ليُضيق عينيه بتفحص لها وتعجب يتساءل عن رغبتها في الابتعاد عنه لتبتلع مُجددًا ثم واجهته بثقة ولكنها لم تكن كافية بعد أن استمع لتلك النبرة المُهتزة التي تُحدثه بها:

- عمر، لابد من أنك تعلم بأنني اقمت دعوى الخلع، مجرد تواجدنا هنا معًا لن يستمر سوى لأيام معدودة ليس إلا حتى احصل على الحكم .. ارجوك لا تدعي بأن كل ما بيننا على ما يُرام، ولو لا زلت مُنتظرة هنا بنفس المنزل هذا لأنني لا زلت احمل أمل بأنك لن تُصعد المُشكلة حتى تُصبح شرسة بيني وبينك أمام والدتي وأخي! أود أن اترك المنزل مرة واحدة، بغضون ساعة واحدة فقط وألا اعود دون اثارة الجدل والحُزن .. لا اريد أن اسبب جلبة بشأني أنا وأنت! لا داعي للضوضاء والصخب، ارجوك احتفظ بآخر ما نُكنه لبعضنا البعض من احترام..


همهم بفهمٍ لكلماتها ثم تنهد بعمقٍ ليُعقب بثقة لا نهائية على كلماتها:

- ولكن لا يزال هناك أسبوعان لحين التسوية، وبعدها اعلاني بالدعوى، تسمية الحكمين، وانتِ لا تملكي رجل بعائلتك اكملها كي يُمثل واحدًا من الحكمين،  وحتى نهاية الإجراءات بصدور الحكم بالخلع بشكل نهائي .. انتِ لا زلتِ زوجتي أليس كذلك؟!


انتهى قوله بسؤاله الساخر وهو يُحدثها بتلك الإجراءات التي اعلمها عنها سابقًا المحامي الذي استعانت به ولم يُعجبها تعقيبه على عدم امتلاكها لرجل بعائلتها لترتبك لوهلة ليقترب من جديد نحوها وامسك بيدها برفق وحدقها بنظراتٍ ملتاعة لها باشتياقٍ لا يتناسب مع قوله التالي:

- لو حظك جيد ستحصلين على الحكم النهائي بعد ثلاثة اشهرٍ من الآن أو ربما ثلاثة اشهرٍ ونصف ولو كان حظي أنا جيدًا ستظلين زوجتي لمدة ستة أشهر قادمة.. ربما أنا لست متخصصًا بالأحوال الشخصية ولكن لدي فكرة عن الأمر أم نسيت أنني محامي ولدي فكرة عن سير الإجراءات في مثل هذه القضايا؟!


من جديد يُحذرها بطريقة خفية لا تخفى عنها هي فنظرت لموضع يده على يدها ثم ارتفعت عسليتيها لتُحدق به بنظراتٍ متوسلة وهمست بإنهاك وهي تزفر بحرقة:

- عمر، لم يعد هناك مجالًا للحياة بيننا، قد تظن أن ما حدث كان صغيرًا للغاية بالمقارنة مع الكثير مما حدث بالسابق ولكنني لم اعد استطيع التحمل.. هل يُمكننا فعلها بهدوء، يكفي حُزن والدتي الذي اعلم أنه مجرد مسألة وقت ليس إلا، والدتي مريضة، يكفيني أنني سأعاني من أكثر من جهة، أرجوك أنا لا أريد سوى الانفصال، حاول أن تفهم الأمر!


استسلمت مُقلتيها للتقهقر خلف عبراتها التي اوشكت على التحول لدموعٍ متتالية ليرفع أنامله تاركًا يدها فحاولت التراجع وهي تغمض عينيها بينما تلمس وجنتها برفقٍ لتنفر من لمسته وكلمها بلينٍ لا يتناسب مع قوله ذو التهديد الصريح:

- إذا كنتِ قمتِ باللجوء إلي القضاء والقانون فلندع القانون لفعلها، وإذا كنتِ لا تريدي اثارة جلبة وضوضاء فأنصحكِ قطتي بأن تفعلي أنتِ هذا أولًا، أم ستقولين شيء وستفعلين نقيضه؟


سلطت نظرتها بعينيه ودموعها تنهمر بنفس الوقت حتى ارتطمت بأنامله التي لم تتراجع بعد عن الحاحها بهذا الهوس الذي يملكه بأن يُصبح قريبًا منها في تلامس دائم معها لتسأله بانكسار:

- هل كل ما ناديت به عن العشق بيننا يتحول الآن إلي تهديد صريح؟


تفحص ملامحها بطريقة ارعبتها ونظراته الجامدة بالرغم من لينه وهدوئه الظاهريين ثم أومأ لها بالإنكار وابتسم بمرارة واجابها بخفوت:

- بلى، أنا لا زلت اعشقك،  وسأفعل كل ما بوسعي كي استعيدك! ليس بالتهديد ولا بالإجبار، لكن بأي طريقة أخرى تجعلك تتراجعي عن قرارك! سنتناقش حتمًا في هذا ولكنني للتو عدت من السفر واشعر ببعض الإنهاك.. قانونيًا وشرعيًا أنتِ لا زلتِ زوجتي حتى هذه اللحظة، أليس كذلك؟


ابتلعت وهي لا تدري ما الذي يعنيه بكلماته التي لا تفشل في تشتيتها ولكنها حاولت تسليط انتباها على رغبتها منذ البداية بأن تنفصل عنه لتجده يُردف عندما التزمت الصمت وهو يُمسك بيدها متلمسًا إياها بخليط من الإلحاح والنعومة:

- تعالي معي روان..


تسمرت قدميها تتشبث بالأرضية خلفها وكل لغة جسدها تصرخ بالاعتراض وأومأت بالنفي لتُحدثه مُتلعثمة:

- عمر أنا لن اقبل تلك التصرفات مثل الماضي، لن تشتتني بالكلمات ولا بالعلاقة الحميمة ولا بأي طريقة أخرى!


ظنت أنه يُضيق عينيه نحوها لتبعث فحميتيه المزيد من التوجس بداخلها واجبرت قلبها على الرجف بسرعة جنونية ليُجيبها بنبرة استفهامية:

- من قال هذا؟ لماذا علي أن اشتتك؟ ومن قال أنني سأشتتك بالكلمات أو العلاقة الحميمة، أنا لا ارغب في الحديث ولا حتى العلاقة الحميمة، فقط امتثلي ما أريده ولو مرة واحدة دون جدال!


جذبها بخفة لتسير معه دون هدى ما الذي يُريد فعله ثم توقف أمام الحمام المُلحق بغرفتهما ليقوم بفتحه فابتعدت هي للخلف تاركة يده وبداخلها تقرر على عدم الانصياع لرغباته فالتفت إليها والتقت عسليتيها الرافضتين لكل أفعاله بمُقلتيه الباهتتين المضطربتين منذ عودته لتأخذ خطوة للخلف مبتعدة عنه وحدثته بتصميم قائلة:

- لم يعد هناك المزيد من الحيل لفعلها معي عُمر.. 


تنهد بإرهاق ثم اقترب منها وأخذ يخطو نحوها دون اكتراث لتحذيراتها السابقة:

- ألم تستندي إلي القانون لحل الأمر؟ 


ابتسم بطريقة غريبة لم تعهدها منه لترى الفخر واضحًا بملامحه لتحاول الابتعاد وهي تتراجع بخطواتها ليُردف وهو يرفع حاجباه مما أدى لتقطب جبينه:

- طالما من وضع القانون بشر مثلي ومثلك لطالما هُناك ثغرة به روان!


تصاعد المزيد من رجيف قلبها المتواتر بجنون لتتوسل هاتفة بخفوت:

- أرجوك لا تفعل شيئًا يُدمر ما تبقى بيننا


ضحك بخفوت وعينيه فجأة التمعت ببريقٍ غريب وهو يتفقد ملامحها المُرتبكة واقترب نحوها ليُمسك كلتا ذراعيها بقوة ولكن دون مبالغة لتحاول هي الفرار بدفع جسدها بين يديه كي تتخلص من قبضتيه فلم يستجب إليها فهتفت به بحزم قدر ما استطاعت ناقض كل ما تحويه ثنايا صدرها من رعب:

- اقسم لك إن لم تبتعد سأصرخ وسيستيقظ الجميع على صراخي


ضحك مرة ثانية لتزداد ملامحها وجوم عندما لاحظت كيف تحولت تقاسيم وجهه بلحيته الكثيفة التي تجعله يبدو مُرعبًا وشعرت بشدة صخب خفقات قلبها حتى قارب أن يغادر صدرها لتجده في النهاية يحدثها بهمسٍ متلذذٍ بملامحها:

- يا لكِ من قطة شرسة


استكانت ضحكته لتلين لابتسامة ثابتة بين شاربه ولحيته وأضاف بنبرة استفهامية مستنكرًا:

- وما الذي ستصرحين به كتفسير لكل من يستيقظ ويأتي ليتفقد حالك صغيرتي؟ أنكِ تريدين أن تخلعي زوجك؟ أم، أنكِ تودين أن تصيبين والدتك بوعكة شديدة حتى تبكي لاحقًا على ما أصابها وأنتِ بالطبع المُضحية من أجل الجميع؟ أو، ربما تريدين أن يخسر بسام بعض الدرجات لأنه متفوق للغاية مثل أخته  فلا بأس من اصابته ببعض الضغط النفسي حتى يفقد بعض الدرجات وتصبحي أنتِ الأفضل؟ 


ضيقت ما بين حاجبيها على هذيانه بتلك الكلمات وهي لا تُصدق تلك الخيالات المريضة بداخل عقله وهمست به:

- هل فقدت عقلك؟


هز كتفيه وهو يبتسم لها وعينيه تتفحصا خاصتها باستمتاع غريب ثم همس لها:

- لا صغيرتي بل أنتِ من فقدتِ عقلك عندما فعلتِ ما فعلتيه.. 


تفقدها لبرهة واخفض يديه عنها ثم أردف بملامح تغيرت مائة وثمانين درجة بعد ذلك الاستمتاع لملامح أخرى حزينة:

- ولكنني سأحاول معكِ روان، واتوقع منكِ المثل، لذا بدلًا من اثارة الضوضاء بهذا الوقت المتأخر، وكي لا يستمع إلينا احد كوني زوجة جيدة ولتُحضري لي بعض الملابس واتبعيني إلي الحمام!


تركها وغادر لتتابعه بعينيها بصدمة شديدة وبداخلها لم تجد سوى أن تُلقب نفسها بالغبية، الساذجة، التي ليس هناك ولو ذرة من تعقل بداخلها، هي تستحق هذا! تقسم أنها تستحق كل ما يحدث لأنها ولو لمرة واحدة فكرت بنفسها لما كانت تورطت مع رجل مثله! 


ربما كان عليها الصراخ، والانصياع للفشل، كان عليها أن تعانق والدتها باكية وتُبكيها لترتجف وهي تضمها وتصرح أنها لا تدري ما الذي عليها فعله، أو، كان من المفترض أن تبكي بقرب قلبها وهي تعترف بما فعله معها، كيف قام بتعذيبها، أو حقيقة اضطراباته التي يستحيل أن تعيش بها، أو كان عليها أن تقص أنه رجل ذو ماضي يمتلئ بالمحظورات! كتجارات شتى غير قانونية وهو من يأتي ليُنادي بالقوانين وكأنه رجل نزيه! 


فكرت بكل شيء لعدة دقائق، عرفت أنها أخذت قرارًا غبي بالبقاء هُنا خوفًا من الضوضاء والجلبة، لذا كان عليها التصرف كتلك النساء التي تقرأ مُشكلاتهن على مواقع التواصل الاجتماعي! الصراخ، إيقاظ من بالمنزل، والتهور والاندفاع.. فهي منذ شهور وهي تحاول التصرف بلباقة كسيدة اعمال ولكن ربما عليها اليوم أن تتصرف كامرأة فقط إن لم يخضع لكل ما تريده ويتصرف كما يحلو لها! 


لن يجذبها إلي المزيد من بئر جنونه، ولن تسمح بالمزيد من كلماته لتؤثر بها، وليس هناك نتيجة للخوف سوى الفشل المحض، ولقد اكتفت من كل ما حدث بينهما إلي الآن.. 


أخذت خطوات نحو باب الحمام، توقفت من جديد لتُفكر بكلماتها جيدًا، لم يعد أمامها سوى أن تتلاعب بخبث مثله على مرض والدتها، وإن لم يستجب فلتكون الحرب بينهما إذن! 


رفعت يدها بعد أن انتظرت لما يُقارب من نصف ساعة تُفكر بها وحسمت قرارها بأن تدخل لتصرخ بوجهه ولكن اوقفها أغرب ما مر عليها معه منذ بداية زواجهما!

❈-❈-❈

في نفس الوقت ...


أغلق الباب بهدوء ثم وقف متكئًا بكلتا يديه أمام المرآة، حدق بانعكاس صورته، تفاصيل وجهه الذي لم يعد يتعرف عليها اليوم وهو يسأل نفسه آلاف الأسئلة غير المُجابة بداخل رأسه التي يستمع لإنذاراتها المُحذرة بأنها ستنفجر عما قريب!


هل هو ضعيف لهذه الدرجة التي جعلته يسمح لها بمعرفة كل شيء عنه؟ أم لأنه ود أن يعشقها كما يحلو لها بكل ما تريده وصل اليوم إلي اقترابه من أن يُصبح زوج مخلوع؟ ما الذي سيحدث لو علم والده؟ 


ربما لو كان استمع لكلماته منذ البداية لما كان وصل إلي اخطاره بحضور جلسة التسوية كأول إجراء بدعوى الخلع التي اقامتها بالفعل! يا له من فاشل! ويا له من ابن غبي كي يستمر كل مرة في عدم الاستماع لكلمات والده، دائمًا ما يكون مُحقًا ودائمًا ما تُثبت له تفاصيل حياته أن والده يرى الأفضل له ولكنه كالطفل الغبي لا يريد الاستماع!


لماذا لا يبقى مثل ابن عمه "أنس" ويسعد بزواجه؟ هل يا تُرى نظر له وكأنه ضعيف بسبب أنه لا يزال يتذكر الحادثة أم رآه كفاشل بزواجه؟ ولماذا بالرغم من كل محاولاته أن يصير مثل والده لا ينجح أبدًا؟ 


وماذا عنها؟! ألم تعشقه بعد كل ما حاول فعله من اجلها؟ لقد اخبرها بكل شيء، لقد ألقى بكل الماضي والحاضر بين يديها، هل ستأتي الآن لتتركه؟ ما لعنته مع النساء وخاصةً بسبب هذه الملامح؟ لماذا تُصبح كل امرأة تحمل هذا الوجه لعنة حياته؟ سواء هي أو "يُمنى" أو حتى تلك الفتاة التي أوشك على قتلها، كل واحدة منهن تُغير حياته بشكلٍ ما، ولقد اكتفى من كل ما يحدث له بسبب ثلاثتهن!


- اذهب وتوسلها وستغفر لك..


ضحك بخفوت وهو يُخفض من رأسه بينما عاد من جديد ليُحدق بصورته بالمرآة وخُيل له أنه لا يرى سوى انعكاس مظهره المُفضل لنفسه، بذلك الوقت، بعد أن ترك "يُمنى" وغادر للسفر إلي روما وأثينا لرؤية الكثير من التاريخ، بشعره الطويل المعقود للخلف، ولحيته النامية القصيرة التي بالكاد يستطيع التعرف عليها، وابتسامته الصلبة، ومظهره المنتعش وكأنه للتو غادر كابينة الإستحمام وتوجه ليرتدي أفضل ما لديه، ليُجيب في النهاية ذلك الصوت بداخل نفسه متهكمًا:

- أتدعوني لأُصبح ضعيفًا اكثر من هذا! ألا يُكفي كل ما تنازلت عنه لأجلها!


شعر بصورته هو التي يتمنى لو أنها حقيقية بمثل هذه الراحة التي تبدو على ملامحه منذ سنوات تُربت على منكبيه برفق وهي تقف خلفه تمامًا ثم حدثته هذه الصورة الجيدة لنفسه بثقة ونبرة خافتة:

- هي تعشقك عمر.. وأنت تفعل.. لقد جرحت انوثتها وكبرياءها وكل ثقتها بنفسها.. القليل من كلماتك البارعة وستلين لك


توسعت ابتسامته وبعينيه بريق متهكم ثم التفت ليواجه هذا الرجل الذي يُشبهه هو نفسه وحدثه بلهجة استفهامية تطرح الكثير من التساؤلات غير المجابة والتي لا يوجد أي اجابات لها بداخله:

- ألم تُفكر أنني سأمت التحدث؟ ألا تشعر بأنني مُرهق من كل شيء؟ وذلك الجحيم الذي عدت منه للتو، ألا تشعر بي؟ لماذا علي التحدث من الأساس لأي احد؟ حتى ولو كانت هي نفسها؟ لماذا لا تقبل كل ما وجدته عني وتصمت وتتظاهر بالاستسلام؟ لماذا كل شيء صعب؟ 


تكومت الدموع على مقلتيه ليزم شفتيه بقهرٍ وغيظ يتأجج بكل خلية بجسده ثم سرعان ما توسعت ابتسامته لتهطل عبرات عينيه متحولة لدموعٍ كثيرة متوالية وهمس في النهاية:

- هل هناك مفر من كل هذا؟ هل لديك عصا سحرية لنطرق بها معًا ونحل الأمر؟ لقد سأمت! اشعر بالإنهاك يضرب كل خلية بجسدي وأنا كما أنا ضعيف، فاشل، ولا يحبني أحد بالحياة سوى أبي المتملك الذي لا يُرضيه شيء! 


نظر له هذا الرجل الذي يُشابهه هو نفسه بملامحه الرائقة ثم قام بعناقه ليُبادله هو الآخر ونشج بحرقة ولم يكن يدري أنها استمعت لكل حرفٍ وكل كلمة تفوه بها!! 


نظرت حولها لترى هاتفه موضوعًا على تلك المنضدة الجانبية الصغيرة بجانب باب غرفتهما لتقضم شفتاها في توتر ثم علق نظرها بباب الحمام ودمعت عينيها لبُرهة دون أن تذرف الدموع لتدرك أن أمر الهلوسات السمعية معه قد تفاقم إلي هذا الحد الذي دفعه للتحدث إلي نفسه بصوتٍ مسموع والاستجابة لكل ما كان يُحدثه فقط بداخل رأسه ليُصبح اقرب للجنون المحض!

❈-❈-❈

حاولت التخلص من تلك الشفقة بداخلها والألم الذي لم يرأف بها ليُسبب تلك الغصة التي تعتصر قلبها من أجله ولكن ما الذي عليها فعله أكثر من أنها طالبته آلاف المرات بتجربة العلاج النفسي؟ 


ويا ليت العلاج سيُفيد، بل هو يحتاج للكثير من العقاقير كما حدثتها "مريم" والمداومة والاستمرار عليها بشكل يومي! كيف لها أن تُساعد من لا يقبل المساعدة ولا يشعر بأن كل ما يحدث له يسوقه لفقد عقله تمامًا؟


حسمت أمرها ورفعت يدها لتطرق الباب ثم هتفت مُنادية:

- عمر.. 


ترقبت لبُرهة بينما لم تستمع منه لرد لندائها لتتهدج أنفاسها بارتباك وبدأت في أن تطرق الأفكار السيئة برأسها وتخيلت أنه قد يُحرضه عقله على قتل نفسه ففكرت أن تكرر فعلتها ولكنها وجدته يقوم بفتح الباب وتفقدته مليًا ولكنها لم تجد أي علامة من علامات بُكائه لتبتلع ثم سألته دون وعي لما تقوله لينطلق السؤال من قلبها اللعين دون المرور على عقلها:

- هل أنت بخير؟


تفحصها بعينيه الباهتتين ثم أجاب بابتسامة ساخرة:

- وكيف سأكون بخير وأنتِ تصممين على الابتعاد؟


رطبت شفتاها وكلاهما يحدقان ببعضهما البعض لترى نظراته المُشتتة فقررت أن تتراجع عما ودت أن تقوله وذهب عقلها ليُفكر في أن تتخذ الإجراءات القانونية وحدها وستذهب من هذا المنزل وتتركه وشأنه بالرغم من أن قلبها يعتصر بداخلها على تركه ولكن مجرد الحياة معه لا تحمل أي وجهًا من أوجه الأمان ولا الاستقرار..


وجدته يجذبها من يدها ليتجه للداخل ثم وقف أمام احدى وحدات التخزين لتمتد يده إلي شفرة حادة لتتوسع عينيها بفزعٍ وسألته بخوف:

- ما الذي ستفعله؟


التفت نحوها ليُضيق عينيه متفحصًا ملامحها وابتسم لها بطريقة صاعدت خفقات قلبها ثم تكلم بهدوء:

- لا تقلقي، لن أؤذيكِ.. 


التفت وجذبها حيث جلس على حافة المغطس واردف بخفوت وهي بالكاد تتبين ما يقول:

- بل أنتِ من يُمكنكِ فعلها


رفع عينيه لها وتبدلت ملامحه المرتبكة لتُصبح أُخرى مرحة وحدثها بابتسامة:

- هل لكِ أن تُساعديني.. أعلم أنكِ لا تُفضلي هذه اللحية، ولا أنا أيضًا!


رفع لها الشفرة الحادة وترك يدها بنفس الوقت لتبتلع وهي تتفقده بحيرة غير عالمة ما الذي يُمكنها أن تفعله معه ثم قررت بعقلها أن تلتزم هذا الهدوء حتى يذهب لعمله أو النوم أو أي لعنة حتى تستطيع الفرار ولتبكي والدتها هي وأخيها كيفما يحلو لهما، تواجدها معه بصحبة سلاح قد يؤدي لقطع شرايين أي منهما ليس بوضع آمن على الإطلاق! 


- حسنًا!


أومأت له بالموافقة وبداخلها لا تستطيع أن تتخلص من توترها بينما التفتت لتقوم بتحضير ما يلزم لتساعده على إزالة هذه اللحية الكثيفة غير المهذبة فهي ليست مرتها الأولى لفعلها، ولكن ما تتعجب له لماذا يُريد أن يستخدم موسى الحلاقة اليوم، فهو لطالما كان يستخدم الآلة الإلكترونية!


اقتربت منه من جديد وبدأت في فعلها وتجاهلت النظر إليه تمامًا وهي تتضرع بداخلها إلي أن يُكسبها هذا بعض الوقت معه وشعرت بعينيه تبحث عن أن تبادله ولكنها لم تفعل فلقد ارادت النهاية من كل ذلك وظنها بأن يحترم قرارها ولو مرة واحدة كان مُخطئ تمامًا.. يا ليتها تركت هذه اللعنة وابتعدت قبل أن يأتي من سفره، يا ليتها لم تكن بكل هذا التشتيت والحالة الصدمة التي وقعت بها، ويا ليتها استمعت لكل ما قالته "مريم" بجلستها الأخيرة!


شعرت به يتفحصها بطريقة غريبة بينما رفع يديه ليحيط خصرها فحدثته زاجرة:

- توقف عمر وإلا سأجرح وجهك


تنهد غير مكترثًا بكل ما يجوب برأسه وحقًا لا يدري ما الذي يُريده في هذا الوقت تحديدًا معها ثم عقب قائلًا:

- افعلي إذن!


زفرت بضيقٍ ثم ابتعدت عنه وتفحصته لتتساءل بحنق:

- ما الذي تريده عمر من حيلتك هذه المرة؟ 


هز كتفيه كدلالة على عدم المعرفة ووجه لا يزال مُلطخًا بآثار الرغوة البيضاء وحدثها بنبرة هادئة قائلًا:

- لا أريد شيئًا


رفعت حاجبيها ثم قلبت شفتيها وتنهدت لتُكمل مساعدته وهي لم تعد تتحمل جنونه وتصرفاته غير المبررة ومن جديد احست بيديه حول خصرها لتحدثه بتحذير:

- لن يُفيد التقرب مني هذه المرة، تلاعبك بالاقتراب مني والتغزل بي لن يُصلح ما حدث


ابتسم زافرًا بهدوء بينما يشعر بحدة الشفرة على وجهه ليحاول التحدث بحرص وسألها:

- أي تغزل؟ التغزل بخطاباتي إليكِ؟ أم عندما اخبرك أنكِ فاتنة ومثالية؟ أم تلك الكلمات القليلة مني إليكِ وأنا اهمسها بأذنك؟


رمقته بغيظٍ واكتفت بالتأفف بداخلها وحدثته قائلة:

- صدقني، هناك اختلاف شاسع هذه المرة


همهم إليها متفهمًا بينما شعر بها تكاد تنتهي فحدثها ببرود ويده تشتد على خصرها:

- بالطبع، لأنك قد علمتِ كل شيء بالفعل فهذا سيجعل هذه المرة مُختلفة عن أي مرة سابقة، قد أبدأ بهذا الجرذ الذي ساعدك بإجراءات الدعوى! 


بمجرد سماعها لما قاله حادت يدها عن ثباتها ورغمًا عنها فامت بتسبيب جرح له لتنظر نحوه بينما جذبها إليه أكثر واستمر كلاهما في تبادل النظرات لبُرهة ليهمس لها بتلك النبرة التي اعتادت أن تستجيب لها وتركتها يومًا ما تبعثر مشاعرها:

- الآن صِرنا متعادلان، قمت بجرح كبرياء انوثتك وقمتِ بجرحي! 


ابتلعت وهي تنظر له لتلمح ذلك البريق بعينيه وانعكاس صورتها المُرتبكة بمقلتيه لتحدثه بإصرارٍ وهي تشدد على نطق الحروف واستطاعت أن تفر منه وهي تجذب بالمنشفة ثم القتها بوجهه:

- ليس هناك مقارنة


ابتسم ابتسامة لم تلمس عينيه ورآها تكاد أن تغادر فنهض سريعًا ثم امسك بها وتكلم ببرود متحديًا بالقرب من اذنها:

- سأبطل هذه الدعوى اللعينة


ارغمها على الإلتفات له فرمقته بمزيد من الانتصار ثم تحدته هي الأخرى وأنفاسها تصخب بتوتر من اقترابهما الشديد:

- لن تستطيع أن تفعلها عمر وستطلقني رغمًا عن أنفك


جذبها إليه أكثر ثم تحولت نظراته لأخرى راغبة بها وهمس بخفوت:

- سنرى! 


ابتلعت وهي ترمقه متذكرة تلك الكلمات من المحامي الذي احضرته لها "يُمنى" وهو يُذكرها بأنه لا مجال للتلاعب بهذه الدعوى سوى بمهرها لو استطاع أن يُحضر اثبات وشهود أنه قد أعطاها شيئًا ولم تقم هي برده لتبتلع بارتباك ثم هتفت به متوسلة:

- إن كنت عشقتني يومًا أنهي الأمر دون أن نسبب الآلام لبعضنا البعض، لا تجعلها حرب أرجوك أمام الجميع


تصاعدت خفقات قلبه وهو لا يُفكر سوى بتقبليها وسلط نظراته على شفتيها وصخبت أنفاسه لتتثاقل بشدة ثم اقترب ليهمس أمام شفتيها وحاول أن يتحكم بجسدها كي لا تتهرب من قبضتيه بسبب تحركاتها المُهرجلة التي تحاول خلالها التخلص منه:

- ولأنني اعشقك سأحاول روان.. 


رطب شفتيه وظنت أنه سيقبلها فأسقطت الشفرة أرضًا من يديها خوفًا من أن تصيب أي منهما وحاولت أن تدفعه بعيدًا وهي تشعر باختلال توازنها وأنها اوشكت على السقوط بسبب جذبه إليها بينما أردف بنفس النبرة اللعينة وبصحبة أنفاسه الدافئة التي تنهمر عليها:

- اذهبي لتبديل ملابسك، سنذهب خارجًا للتحدث بهدوء في كل شيء.. إلا لو كنتِ تملكين اقتراح أفضل وتودين أن تشاركيني الاغتسال.. أرى أن هذا أفضل، قد اقبلك واضمك إلي ونحن نحل الأمر فيما بيننا.. ولكن على ما يبدو أنكِ لا تريدي هذا الاختيار فمنذ أن أتيت وأنتِ تتحاشين ملامستي لكِ! 


رمقته بغلٍ ليتابعها هو ببرودٍ كاسحٍ وكأنه لا يلزمه مجهود في إعاقة جسدها عن التحرك ليتركها في النهاية ورفع يديه فجأة وهي تدفعه بشدة وأخذ خطوة سريعة للخلف لتسقط هي أرضًا فتعالت أنفاسها بغضبٍ وهي ترمقه باحتدام غيظها ونهض ليرمقها بعلوٍ بجوار حذاءه الذي تخلص منه بالقرب منها لتنهض وصاحت به:

- لن نتحدث بشيء وقلت لك أنـ..

- استمعي لما أقوله روان حتى لا يستيقظ من بالمنزل بأكملهم على صراخك! ولتحضري لي أي لعنة كحولية كي أحتسيها قبل مغادرتنا للمنزل، ستجدين البعض بغرفة مكتبي


قاطعها بنبرة قاسية وأخذ يخلع ملابسه فتابعته باشمئزاز ثم توجهت للخارج وهي تلعن غبائها وحظها اللعين اللذان اوقعاها في هذا الرجل بكل ما هو عليه وسبت نفسها آلاف المرات على ظنها بأنها تستطيع أن تحل الأمور فيما بينهما بهدوء دون إثارة جلبة! ربما عليها أن تضع السُم في هذا الخمر الذي يُطالبها بأن تحضره له، لن تفعلها، هي ليست بخادمته!

❈-❈-❈

جلس كلاهما على مقعدين متقابلين بركنٍ بإحدى محطات الوقود كما فعلت معه مرة بالسابق بينما لم يملك معايشة كلاهما لهذه اللحظة من جديد أي مشاعر منها تُذكر، لا يزال قراءة نفس التصميم على ملامحها بأنها مُصممة على الانفصال، لُعنت "يُمنى" وكل من كانت على شاكلتها إلا هي!


مررت اناملها على كوب القهوة باللبن الخاص بها بينما لمحته بطرف عينيها شاردًا بها وصوت الهدوء في هذه الساعة الباكرة من صباح اليوم يصرخ حولهما ولم تستطع تبين ما الذي يُريده فلقد مرت عشر دقائق وهما بنفس هذه الحال من الصمت التام فرفعت عسليتيها نحوه لتلاحظ شروده الشديد الذي غرق به ولم تكن تدري أن كل ما يدور برأسه هو تساؤله عن ما إذا احتسى بعض الكحول حقًا أم أنه يتخيل فعلها!


- ما الذي تريد التحدث به؟


آتى سؤالها منقولًا بصحبة تنهيدة عكست آلمها الذي لا تزال تُعاني منه بينما لم تلفت انتباهه فكررت سؤالها من جديد بنبرة أشد:

- عمر ما الذي تريد التحدث به؟


همهم منتبهًا إليها بعد أن استطاعت جذبه من حالة شروده ليبتسم لها بعفوية لم يشعر بها تطرق باب شفتيه واجابها سائلًا:

- ماذا؟!


رفعت حاجبيها بذهول ولكنها حاولت التماسك أمام طريقته الغريبة التي يُعاملها بها منذ عودته وسألته للمرة الثالثة:

- ما الذي تريد التحدث به؟


أومأ لها كمن تذكر شيئًا ثم تحدث قائلًا:

- نعم.. بخصوص هذا!


كادت أن تصرخ به بأنه لا يكترث لتواجدها أمامه ولكنها رمقته بتحفز بينما بدأ في الحديث بنبرة مُعتدلة:

- أنتِ تعرفين كل شيء عني روان، وأنا على استعداد لفعل كل ما تُريديه دون اللجوء لأي طريقة لن تُعجبك، لذا، دعينا نحاول نسيان ما مر، دعي الأمر ليكون كما يحلو لكِ .. أعدك أننا سنتغلب على هذا، وأنا لا اجعلك تُشبهين يُمنى ولا أريد نسخة منها ولا كل ما يدور بعقلك.. أنا فقط اخفيت الأمر لأنني اعرف أنكِ تثقين بنفسك كثيرًا، لم أرد أن ادفعك للتفكير بأنني اعشقك لأنك تُشبهيها وحسب!


لقد ود قول المزيد، يريد أن يبرهن بالكثير من الكلمات، أو يُشتتها، أو يحصل على تراجعها، ولكن لماذا يتذكر سخرية والده منه وهو يتحدث عن أنه يعمل على قضية عمره بأكمله؟ هل هو يفعل حقًا؟!


شرد مُجددًا بتفكيره بعيدًا بتلك الأحداث الأخيرة التي مرت عليه بصحبة والده بينما هي كادت أن تصرخ به غير عابئة بمن حولهما وهي تريد أن تُسمعه الكثير والكثير من المواقف التي ستعيدها على مسامعه بصحبة نبرة مغتاظة صارخة تتهمه خلالها بكذبه ولكنها تراجعت، هذه الطريقة ليست طريقتها التي تتعامل بها لا معه ولا مع سواه!   

- حسنًا اقدر ما فعلته ولكنني لا يُمكنني الاستمرار عمر!


ترقبت قوله وهي تُحدق به لتجده ينظر ببقعة محددة خلفها مما جعلها تتعجب وأُصابت بالدهشة من فعلته فالتفتت لتنظر بإتجاه بصره بينما لم تجد شيئًا مميزًا فعادت من جديد لتنظر له باستفسار لما يفعله ولم تكن تعلم أنه غارق برؤيته للكثير مما مر عليه بالسابق، وتحديدًا ذلك اللعين الجاثي فوقه وهو يقوم بتمزيق ظهره طوليًا ببقايا زجاجة الجعة الخضراء!


- عُمر


نادته لتحصل منه على ردة فعل بينما لم يستمع لها فكررت ندائها مرة أخرى ليُجيبها بنظرات مبعثرة:

- ماذا؟


ضيقت ما بين حاجبيها وهي لا تدري لماذا تشعر بأنه اليوم بات يُمثل رجل مجنون قابع أمام عينيها لتشعر بالقلق عليه وبنفس الوقت على مصاحبته والتواجد معه فقالت بسرعة قبل أن يفقد انتباهه:

- أنا مصممة على الخلع


قلب شفتاه وأومأ لها ثم حاول أن يُفكر ما الذي يجعلها متشبثة بهذه الفكرة كثيرًا إلي هذا الحد بالرغم من كل محاولاته معها ليدور بينه وبين عقله حوارًا فريد من نوعه:

- ستتركك! أنا متأكد من هذا 

- لن تفعل وكف عن قول ما لا تعيه


- انظر لها، تبدو مصممة للغاية

- لا لن يحدث لن تتركني


- لقد اكتشفت الأمر، كان عليك أن تصارحها من البداية

- عليها التحمل قليلًا، أنت تعرف أنني اعشقها! لذا توقف عن اصابتي بالإحباط اللعين


-عمر!

صرخت هذه المرة لينتبه لها ثم تفقدت ساعتها ورآتها توشك على أن تصبح الثالثة صباحًا لتنهض غير مُكترثة بقدومه معها ولكنها حاولت محاولة اخيرة:

- لقد اكتفيت من صمتك، لدي عمل بالصباح، هل ستعود معي أم تريد أن تُكمل تأملك لتلك التفاصيل حولنا؟


رفع حاجباه وهو يتفقدها بصعوبة، طرأ على عقله قصة "أنس" بصحبة ابنة عمه، هل فعلت معه هذا يا تُرى؟ هل كانت بنفس شخصيتها؟ ربما لا تبدو بنفس فتنتها المُهلكة!


هزت رأسها باستسلام وقررت أن تتوجه نحو السيارة فدخلتها ليتبعها في صمتٍ ومن جديد وجد نفسه يُفكر مليًا، ما الذي يدفعها لهذا التصميم على الانفصال بهذه الشراسة؟ لقد حدث الأسوأ ولم تكن ردة فعلها بكل هذا الإصرار، ما المختلف هذه المرة؟


انطلق السائق بعد أن اخبرته بالتحرك للعودة إلي منزلهما ثم وجدته يحاول الحصول على اصابعها بإلحاح وحاولت الفرار من يده التي تلح عليها بشدة إلي أن اصبح الأمر يُشابه عراك وأحست بأن السائق قد لمحهما بالمرآة الداخلية بالسيارة لتُطلق زفرة مُرهقة ثم التفت لترمقه بمُقلتين غاضبتين استطاع رؤية لهيب انزعاجها بها فبادر بالتحدث وهو يتفقدها بولهٍ تام:

- سأبطل الدعوى روان، وسنكون بخير..


اغمضت عينيها من شدة استفزازه لها وهو يُكلمها بمنتهى البرود ويُكرر قوله من جديد وحاولت التماسك ألا تقوم بالصراخ عليه أمام السائق وقررت أن تتنازل عن هذه المعركة الكلامية لحين وصولهما المنزل مرة أخرى!

❈-❈-❈

الكثير من المُحفزات لصدمة بطفولته وهو يرى نفس المكان قد تساوى بالأرضية وكأنه لم يكن ولم يتواجد يومًا من الأساس وصوت ابن عمه يتلاعب بالخلفية وهو يُذكره بكل ما مر عليه يومها، الكثير من الضغط العصبي الذي لا يستطيع مواجهته، والعديد من المواقف التي عاناها مع والده بالأيام الماضية وهو كلما لمحه شعر بأنه لا يزال ضعيفًا هشًا بالمقارنة معه، وببساطة رجل فاشل لا يُشبه والده في شيء! 


بصحبة أنه بدا أمامها ضعيف لا يملك المقدرة على الثبات والصلابة أمامها، شدة رغبته بدفعها للجلوس أسفل قدمه لتتوسل له أن تفعل ما يُرضيه ولكنها بالطبع لن تقبل، بالإضافة إلي شأن تركها إياه لم يُمثل له بعقله سوى المزيد من الاضطرابات.. كان عليه أخذ ردة فعل تجاه كل ما يحدث له باستجابة مرضية بحتة! سيتحول حتمًا من هذا المزاج الطبيعي الذي كان يعيش به لأكثر من شهر ونصف الشهر وستُصبح نتائج نوبته القادمة خسارة فادحة!


شعرت به يقترب منها بالرغم من توضيح أنها لا تريده معها بنفس الفراش لأكثر من مرة ولكنها حاولت لمحه في هذا الضوء البسيط الذي يتسلل الغرفة وحاولت التقهقر للخلف حين جلس بجانبها ثم تحدثت متسائلة بنفاذ صبر:

- ما الذي تريده؟ ألن ننتهي الليلة؟ لقد أصبحت الرابعة صباحًا ولدي الكثير لأفعله غدًا..


مد يده ليتلمس وجهها بينما تحاشت هي لمسته ليتنهد بإرهاق بينما فعلت هي الأخرى وتوسلت له:

- أرجوك عمر كف عن افعالك، لن يُفلح كل ما تحاول فعله


عقد حاجباه وهو يتفقدها ويتفقد هذا الفراش الوثير خلفها فشعر بالحقد عليها لتركها إياه لينام على الأريكة وسرعان ما دفع بجسده ليستقر خلفها وتدثر بالغطاء لتصيح به:

- ما الذي تفعله، ألم نتفق أنك لن تنام بالقرب مني! أنت لا تُطاق اليوم حقًا..


زفرت بضيقٍ وهي تشعر بعقلها ينصهر داخل رأسها من تصرفاته اليوم وتصميمه الشديد على أن كلاهما سيصبحان بخير ولم تُصدق تصرفاته الطفولية، حاولت تفسير العديد منها ولكنها منعت نفسها أن تُساق إلي الشفقة المؤدية للغفران له، مريض أم لا، يُعاني أم لا يفعل، نوبة تتملكه أو أفكار خاطئة نتيجتها سلوك غريب، أو حتى تصرفات وافعال ليس لها تبرير.. لقد اكتفت ولطالما حاولت آلاف المرات ولم يُفلح معه شيء!


احست به يُعانقها رغمًا  عنها لتحاول أن تتفلت منه دون جدوى لتقول بإرهاق وهي تغالب البكاء الذي يلح بقسوة عليها أن تفعل:

- أقسم لك أنني أُرهقت من كل هذا، اتركني وشأني عمر


تملكها بين ذراعيه غير سامحًا لها بالفرار ثم اقترب ليتحدث بالقرب من أذنها:

- لو كنت استطيع أن افعلها لكنت فعلتها منذ شهور.. 


تنهد بإرهاق ثم تكلم بنبرة لم تتخل عن جفاءها:

- اذهبي للنوم روان، سيكون كل شيء أفضل بالغد! أعدك بهذا..


استكان جسدها بعد مُدة حاولت خلالها الفرار منه ولم تجد بعقلها سوى ضرورة الهروب واخبار الجميع بأنها تريد الطلاق من زوجها، ستتحمل أيًا ما سيحدث لوالدتها من أي اضطرابات صحية، قد تجبرها حتى على السفر لواحدة من الدول الأوروبية، ولكن لم يعد بها أي قدرة على تحمل كل ما يحدث لها! 


انسابت دموعها في صمتٍ وهي لا تصدق أنها تشعر بالاشمئزاز من مجرد اقترابه، لا تستطيع أن تصوغ ما تحس به سوى الغضب الشديد تجاهه وتجاه كل أفعاله التي لا تنتهي، لا تصدق أنه قد آتى اليوم لتشاركه هذه المشاعر بعد أن كانت لا تتمنى سوى اقترابه منها!


لم يختلف حالًا عنها بكل ما يدور بداخل عقله، يشعر أن رأسه ستنفجر من كثرة ما يُفكر به، لم يعد يجد بداخله في هذه اللحظة تحديدًا المزيد من الكلمات أو التصرفات التي من شأنها ستُحل الأمر معها، لم يُرد أن يكذب عليها أو يخفي عنها أمر ملامحها وذلك الشبه بين كلتاهما، لو كان يُريد الملامح فلماذا يشعر بهذا الإلحاح الذي يدفعه للتنازل عن كبرياءه بأكمله ليأتي من جديد ويعانقها حتى يسقط بصحبتها في النوم؟


انسابت هو الآخر دموعه في صمت وهو لا يدري كيف يُقنعها، كل ما يجد بعقله يحرضه على استخدام أسوأ الطرق وأخبث الحيل ليتلاعب بالأمر، لماذا لا تستطيع أن تغفر له؟ ولماذا لا تُمثل له ذلك العناق الذي اشتهاه طيلة الأيام الماضية كي يُخفف عنه كل ما يراه عند اغماضه لعينيه؟ لم يكن بهذا السوء معها، لماذا لا تتذكر له ولو أي شيء جيد فيما بينهما؟


- لقد ذهبت من جديد لذلك المكان الذي تعرضت به للحادث


اختنق صوته بدموعه مما جعلها تتوقف هي عن بُكاءها ليُتابع باقتضابٍ شديد وهو يحاول أن يخفي حقيقة نحيبه هامسًا لها:

- لا استطيع النسيان، أنا مشوش ومتعب للغاية


اغمضت عينيها بشفقة وشعرت بالألم من أجله عندما استمعت لهذه النبرة منه وحاولت الإلتفات له كي تتفقده وهي تهمس في محاولة إنسانية منها أن تخفف عنه:

-  توقف عن البُكاء أرجوك! هناك حل لكل شيء..


شعرت به يعيق التفاتها له فيكفيه كل الضعف الذي رأته منه بالأيام السابقة ثم همس لها بصوبة وهي يحاول بشتى الطرق أن يُسيطر على نبرته الباكية كي لا تستمع لبحة بكاءه:

- لا تتحركي ونامي صغيرتي، انتظري فقط حتى الصباح، سنتحدث وسنصبح بخير! كل شيء سيصبح بخير!


قربها له اكثر ليدفن وجهه الذي انسابت عليه الدموع بخصلاتها وهو يحاول أن يكف نفسه شاعرًا بضعفه الشديد الذي لا يريد أن يتركه أبدًا وحاول النوم الذي سقط به سريعًا على عكسها هي، فبالرغم من كل ما تُكنه له من عشق، وكل ما تشعر به من ألم لأجله، إلا أنها لا يُمكنها الاستمرار معه بعد الآن!


يُتبع ..