الفصل الرابع - كما يحلو لكِ - النسخة الفصحى
الفصل الرابع
النسخة الفصحى
بساعة متأخرة للغاية من نفس الليلة..
نفس الرحلة في ظلامٍ حالك، ولكن هذه المرة وحده وبمفرده، تغيرت الطُرق كثيرًا بعد ثلاثة وعشرون عامًا، أصبح لديه القدرة على أن يترجل من السيارة دون انتظار سماع كلمة والده التي تعلن له بالسماح أن يغادر ويدخل إلي منزل العائلة، شعور مختلف كثيرًا عن شعور ذلك الطفل الذي كان منتظرًا من والده الإذن والإشارة.. ولكن بما يُعتمل بنفسه وداخل مكنونات صدره كان الشعور أسوأ..
تطلع بفحميتيه الغائبتين بداخل سواد الماضي وظلمة أوائل صدمات حياته هذا المنزل الذي يظن أنه اتسع، اصبح أكبر، اشد واعتى وباعثًا اكثر على الكآبة.. لوهلة جعله الأمر يتساءل، هل يقطن بداخله طفل مثله آتى يومًا مستترًا بدمائه، يرتدي الإهانة، يهرول إلي حضن والده باكيًا كما حدث له؟ أم حمله احدى الحراس حتى والده؟ أم ربما هناك من وجد الملاذ بهذا المنزل؟ يا لها من مجرد أفكار واسئلة لا تنتهي بداخل عقله الذي يتشعب به آلاف الصور والمشاهد من الماضي ليحثه عقله على ضرورة انهاء حياته التي لو عرفها الجميع سينظرون له بمنتهى الشفقة!
سار وهو يدخل إلي المنزل، اكتفى بالتحدث إلي ابن عمه وابن خالته "أنس" .. واكتفى بإرسال رسالة بوقتٍ متأخر وهو يوشك على الوصول إلي والده ليُعلمه أنه قد سافر بالفعل!
قرار متهور من ابنه البكر الرجل المحامي الناجح الذي يلح عليه بأن يتولى القضايا الهامة ... ربما هو مجرد ردة فعل تقف بين الجرأة والخبث بمنتصف الطريق كصفعة ليست بالقاسية ولكنها تحمل بعض الإهانة لما فعله والده بالصباح!!
نعم والده مُحق، ولطالما كان ودائمًا وأبدًا سيكون، ولكن لن يتحكم أحد بحياته، لن يأتي ليدخل ويقف وسط حديقة منزله ليُلقي التُهم التي لا تفيد على مسامعه، كالفشل، ومشابهة النساء، والضعف، ثم يتركه ويذهب... لو كان يعرف ابنه حقًا تمام المعرفة لكان عرف أنه سيكون له ردة فعل ليست بهينة على زيارته الصباحية التي اضطر أن يقابله وقتها وهو يُجبر نفسه على تصنع الكثير! عُمر يزيد اكمل الجندي لطالما كان انتقامه وطريقته في أخذ حقه ورده كانت مخفية، مُستترة، لا يعلم من يوقع به الضرر أي شيء عنها، لا يتوقعها، ولا يُلاحظها!
قالوا أن أخذ الحق صنعة، نعم.. قول صحيح، ولكن لم يتحدث أحد عن أخذ الحق بخبث وبتروي وبمنتهى الهدوء، لم يذكر أحد أن أخذ الحق بهدوء وبتريث أمر خاطئ.. وهذه هي طريقته.. ومن يكترث حقًا لمعرفته عليه التعامل بل والتعايش مع هذه الحقيقة عنه!
استقبله ابن عمه بملامح مُرهقة قليلًا نظرًا لوصوله متأخرًا بهذا الوقت وابتسم له ابتسامة رائقة وحدثه بلوم:
- سيادة المحامي الشهير.. لسنوات لا نتبادل إلا مكالمة كل ثلاثة أعوام مرة هذا إن حدثت واراك من على مسافة بحفل زفافك! كيف حالك؟! وكيف حال الزواج؟
بادله الابتسامة التي لم يجد سواها بداخله، ففي حقيقة الأمر هذا الرجل لم يؤذه أبدًا طوال حياته، ولم ير منه شيئًا يجعله يكرهه، فأجابه سائلًا وهو يُعانقه مختصرًا هذا العناق ليتحول فجأة لعناق بارد جامد تعجب له ابن عمه بداخله:
- بخير.. اخبرني عنك أنت الآخر، كيف حالك؟
ابتعد سريعًا، لا يُحبذ العناق حتى مع الرجال، ولا يستطيع التخلص من لعنة مس ظهره، ربما قد سمح لها وحدها ولكن ما يُشاركه معها لا يُشاركه مع سواها بالعالم اكمله..
- كما ترى، رجل بالتاسعة والثلاثون عليه تولي منصب والده بمقعد البرلمان، وتولي أمر طفلين، ومحاولات مستميتة أن أكون هنا وبالعاصمة من أجل إيجاد أرض وسط بين عمل العائلة وعملي الخاص وعمل زوجتي.. دوامة لا تنتهي!
اجابه ليستغرب من قوله وحدقه بملامح متعجبة ثم سأله وكلاهما يتوجهان لباحة المنزل ليجلس كلاهما في مقابلة بعضهما البعض وسأله باقتضاب وعقدة حاجبين مستفسرًا:
- ما عمل زوجتك؟
رفع حاجباه باستغراب وحدقه كمن يُغيب عنه أمرًا هامًا ثم اجابه:
- مُعيدة بالجامعة ولديها عيادتها الخاصة! طبيبة مختصة بالأمراض النسائية، رضوى الجندي، ألا يُذكرك هذا الاسم بأي شيء؟
تقطب جبينه اثر رفعه لحاجبيه بذهول وهمس متعجبًا:
- اتقصد ابنة عمنا حمدي الصغيرة؟! لابد من أنك تمزح!!
أخذ يهز له رأسه بالموافقة وارتخت شفتيه بابتسامة وتنهد قائلًا بخفوت:
- لو قصصت عليك كيف تزوجنا وما الذي حدث ستتعجب بالتأكيد!!
سخر بداخله أنه قد ترك كل ما يجري بحياته ليأتي كي يدعم مجرد نسخة أخرى من تلك العرائس التي تُحركها العادات والتقاليد ببلدتهم وعائلة الجندي التي لا تنتهي وهو يجلس مع نسخة أخرى من رجل تزوج من ابنة عمه كي يدعمه بمقعده للبرلمان ولكنه حاول أن يرسم الاستغراب والتشوق على ملامحه لمعرفة تلك الترهات التافهة، على كلٍ سيكون افضل من أن يستقبل سؤالًا بخضم حياته التي لا يود الإفصاح عنها..
رجل مصاب باضطراب الشخصية السادية بداخله بالطبع سيُقلل من شأن الطرف الآخر بداخل عقله، سيُهينه سريعًا قبل أن يعرف مع من يتحدث، حكم سريع اهوج بنظرته لرجل تربى بالبلدة.. ولكنه لم يعرف مع من يتحدث بعد!
غمغم "أنس" فجأة وهو ينهض:
- ها قد نسيت الأمر تمامًا.. علينا صنع بعض القهوة للتحدث بالكثير بالفعل!
رمقه "عمر" مستغرب الأمر لنهوضه بينما ينظر له الآخر وأومأ له بأن ينهض مثله بينما انهى حيرته اللحظية قائلًا:
- هيا.. انهض معي لصنع القهوة، لا احبذ أن استدعي احد من العاملين الآن ويكفي من استيقظوا ليحملوا حقائبك للأعلى!
ابتسم على مضض اخفاه ببراعة وظن أنه سيُرهق عقله بالتفاصيل الخاصة بحملته الانتخابية كي يستغل تواجده بينما فاجئه عندما شرع بالحديث:
- عندما تزوجت كنت أنت بسفرٍ بالخارج .. لذلك لم تستطع أن تتواجد بحفل عرسي! ولكن هذا من حسن حظك، لقد كان مروعًا..
عقد حاجباه مستنكرا هذه الكلمات التي يستمع اليها وانتظر أن يُكمل حديثه وبداخله كاد أن يقتل نفسه من شدة الملل بينما سأله:
- هل تريد السكر بقهوتك؟
أومأ له بالإنكار وتابع الآخر صنيعه واستطرد بكلماته:
- لقد كنت الابن البكر لوالدي ووالدتي، ولكن آتى زواجي متأخرًا، فطالما رفضت الزواج طبقًا للعادات والتقاليد التي تمتاز بها بلدتنا وعادتنا الشرقية الأصيلة التي لا تُفيد ثم فجأة مات أكمل، وبات علي أن اتزوج من رضوى زوجته الأرملة الصغيرة طبقًا للعادات اللعينة! لم يحتملوا الانتظار اكثر من هذا.. فوقتها كنت الابن الضال عن عادتنا السخيفة.. وكأن مهتهم الوحيدة في الحياة أن يقوموا بردي إليها!
حدجه بنظراتٍ مستغربة، فالجميع يعلم أن اكمل اخيه الصغير المسمى على اسم جده قد مات وهو كان لتوه متزوج من ابنة عمه لمدة ثلاث اسابيع وكانت الحادثة مروعة، كان ليكون بمثل عمره الآن، ولكنه تابع منصتًا وقد بدأت هذه القصة تحوز على انزعاجه وقارب أن يُغير مجرى الحديث الذي لا يستسيغه:
- لاقاني عمك سامح وخالتك ماجدة بالاتهامات، ولم اجد محامي جيد مثلك ليُدافع عن قراري !! ولكن دعني اخبرك أنني كنت مخطئ للغاية بقراري وقتها!
تعجب من الإشارة لوالده ووالدته بعمك وخالتك وكاد أن يتفوه ببعض الرثاء ليؤازره على هذا الموقف السخيف ولكنه بادر بمواصلته لحديثه:
- ربما تزوجت مُرغمًا ومُجبرًا زواج لا اريده، ولكن اتضح أنه افضل ما حدث لي بالحياة .. لم أكن أتوقع أن ابنة عمي التي أجبرت على التزوج منها يتحول بيننا الأمر لكل هذا العشق!
ناوله كوب قهوته التي فرغ من صنعها ثم توجه معه للخارج وتابع حديثه بينما ارتاب "عمر" بهذا الحديث وكأنه موجه إليه هو نفسه:
- اسفر الزواج عن عشق وطفلين وامرأة ذكية لا تقارب طباعنا هنا أبدًا بالرغم من اننا نشأنا بنفس البيت وتربينا معًا.. كنت أتمنى ألا أُكمل بعد ابي بتكالبه هو والعائلة على مقعده بالبرلمان واستمر للعيش مع اسرتي بهدوء دون كل هذه الجلبة ولكن صدقني أنا مجبر على الأمر، ليس هناك من هو مناسب اكثر مني بين أبناء عمومتنا لهذا الأمر!
أومأ له "عمر" في سكون وشرد لوهلة مطنبًا بتفكيره بزواجه هو و "روان" وسيطر على وجهه الوجوم بينما نبهه ابن عمه متكلمًا:
- لا تقلق، سنربح هذه الانتخابات.. لقد تحدثت مع أبي كثيرًا واخبرته أننا ليس علينا أن نثير قلقك أنت وعمي يزيد ولكنه صمم على أن تقوموا بالحضور ودعمنا
نظر له كالغارق بالتفكير بأمر آخر وكأنه لم يستمع لما تحدث به عن أمر الإنتخابات التي آتى من اجلها وسأله:
- هل كانت زوجتك تكرهك لأن زواجكما تم بالإجبار؟
تعجب من سؤاله وارتجعت رأسه للخلف وملامحه متعجبة من السؤال بينما تفقده بتفحص كي يعلم هي سيكذب عليه أم لا ليجده يومأ بالإنكار:
- لا الأمر لم يكن هكذا!
عقد حاجباه وسأله مجددًا:
- هل كانت تعشقك؟
ابتسم له وهو يشعر بالإستغراب الشديد تجاه اسئلته الغريبة التي ليس لها مقدمات بينما الآخر انتظر سماعه ليتنهد وكلاهما يعودا ليجلسا سويًا:
- لا، لا تكرهني ولا تعشقني.. بل هي كانت تكره فكرة الزواج بأكملها، ارادت أن تُكمل دراستها، وكانت مجتهدة للغاية، وظنت أنني ارفض الأمر مثل ما كان يرفض أكمل، وشيئًا فشيئًا وجدنا أننا نملك نفس وجهات النظر وبيننا تفاهم شديد!
شرد من جديد وهو يحاول قياس زواج "أنس" وابنة عمه على زواجه هو و "روان" وقارن بينهما بينما لم يجد سوى الإجبار كفكرة سطحية واشتراك ظاهري وغرق بصمته بينما عاجله الآخر متسائلًا بإهتمام:
- عمر، هل أنت وزوجتك بخير؟
احقًا بات مكشوفًا لهذه الدرجة أم أنه تسرع بأسئلته؟ هو لا يتحول لطفل ضعيف بسببها، بل على ما يبدو هو يُصبح طفل ضعيف وغبي كذلك بما تسائل به، وهي تسيطر على تفكيره الذي لا يتوقف عن تخمين ردة فعلها تجاه ما اكتشفته صباح اليوم!!
لا يدري لماذا تخيل لوهلة بأنه رجل، زوج أربعيني، بالخامسة والأربعين تحديدًا، ذو المعدة التي كادت أن تلتهم كل ما يمر بجانبها من شدة اتساعها، ورأسه اختفى بها شعره الفحمي الطويل وحل محلها صلع دائم غير قابل للعلاج بصحبة نظارة طبية!!
أومأ له بإقتضاب وتظاهر بعكس ما يدور بالفعل بزواجه وسرعان ما حاول محو تلك الصرة السيئة التي رآى بها نفسه ليرفع قهوته يرتشف منها كي يُلهم نفسه المزيد من الصمت وهو يُفكر بتغير مجرى الحديث ليباغته بقوله:
- اعلم أن عمي يزيد وخالتي مها لا يملكوا افضل زواج ناجح بالحياة، ولكن اخبرني إن كنت تود التحدث عن الأمر، هل أنت سعيد بزواجك عمر؟ حتى حديثي الزواج يحدث بينهما الكثير من المُشكلات، يُمكنك أن تثق بي وتحدثني بأريحية.. فأنا كات اسرار الجميع هنا!
سعل واوشكت القهوة أن تندفع من فمه وبالكاد ابتلع، ما الذي حدث لإخفاءه اموره؟ أم أن ابن عمه الماثل أمامه دجال ويعرف الغيب لذلك يُحدثه عن زواجه؟ ما الذي يقلب حياته بهذه الطريقة رأسًا على عقب حتى يُفسدها ويدمرها بمثل هذه البشاعة؟
ضيق "أنس" عينيه وهو يتفحصه ثم ابتسم له وتعجب منه بهدوء:
- حسنًا، يبدو أنه يجري الكثير بالفعل ولكنك لا تود أن تتحدث عن الأمر.. ألا تثق بي أم ماذا؟
حافظ على ابتسامته الهادئة ليمط شفتيه وحدثه بإقتضاب:
- فقط لا شيء.. زواجي بخير.. وزواج والدي ووالدتي كذلك!
قهقه الآخر بخفوت ثم حدثه بمرحٍ واعين ممازحة:
- عمر، كف عن ادعائك بأن الأمور بخير كما كان والدك يفعل.. الجميع يعلم أنه رجل صارم وخالتي تُعاني معه منذ زمن
تحولت ملامحه للضيق ولم ير أمامه سوى دلالها المبالغ به لأخيه وحمحم ثم حدثه مُعقبًا:
- لا يوجد إنسان مثالي.. أليس كذلك؟
قوله يحمل الإتهامات لكلاهما، والده ووالدته على حد سواء، ولكن من يا تُرى المقصود من هذه الكلمات المبهمة التي تخفي اكثر مما توضح؟! من ملامحه غير المُتفقة معه في اطار هذا الحديث يبدو وكأنه يُجرم أمه!!
نظر له نظرة ذات مغزى وحدق به لوهلة ليُفكر مليًا قبل قوله ثم تحدث بابتسامة مقتضبة:
- اعلم أن الأمر صعب بعائلتنا عمر وخاصة مع والد مثل يزيد الجندي الذي يتحكم بالجميع، ولكن هون عليك، لقد اصبحنا رجال، عامي المقبل سأصبح بالأربعين من عمري.. وسيمر الوقت سريعًا وستلحق بي، ربما عليهم أن يتعلموا التوقف عن التحكم بنا، حتى لو كانوا ناجحين أو محقين، ولكن على الجميع العلم أننا اكتفينا!
حدجه متعجبًا لسماعه لتلك الكلمات وقبل أن يبادر بالمزيد واصل "أنس" كلماته:
- أتدرى لم اقتنعت بالترشح لهذا المنصب عمر وبعد عن عقلي فكرة الإجبار على الترشح؟! لأحاول أن اصلح ولو القليل بحياة من حولنا الذين فسدت حياتهم بسبب هذه الأفكار العفنة، وكان اقتراح زوجتي بالمناسبة، وليس مجرد انصياع مني لوالدي أو والدك ولا حتى عمي حمدي! وأظن انني محظوظ بجلوسي معك الآن دون أي منهم، جيد أنني استطعت التحدث معك دونهم.. كانوا سيجعلون جلستنا أسوأ بأفكارهم التي لا تتغير!!
تبادلا النظرات من جديد ولم يكن "عمر" في مزاج يسمح له بقول المزيد من الكلمات التي لن تفيد، ربما عليه الإنصات والاستماع وانتظار قدوم والده، حتى ولو بدت كلمات ابن عمه منطقية ولكن هو على يقين بأن مجرد كلمات من والده ستغير كل هذا وسترغم الجميع على تغيير آراءهم حتى! عليه فقط الانتهاء من هذا الأمر برُمته وتضرع داخله أن ينقضي الوقت سريعًا.. فكونه يقضي المزيد من الأيام هنا بهذه البلدة مرة ثانية بحياته كان ككابوس لا ينتهي وهو بالفعل لم ينته منذ سنوات!
❈-❈-❈
في صباح اليوم التالي..
استيقظت في هدوء وهي لم تنم من كثرة التفكير بالأمر، اكتفت بفتح عينيها ونظرت نحو تلك البقعة الفارغة بالفراش وهو ليس موجود بها، وسبحت عينيها إلي أن استقرت على تلك الرسائل التي تركها على المنضدة الجانبية بجانب السرير، دون أن يخبأها أو يحفظها بمكانٍ بعيد، أيريدها أن تقرأ المزيد من هذه الكلمات الساحرة .. حسنًا هي ليست في حاجة لمزيد منها ولديها مخزون يكفي لسنوات!
أن تستمر معه فهذا هو اختيارها وأن تتركه هو اختيارها كذلك، ما الذي ستفعله تلك المستشارة الزوجية في المقام الأول؟ كيف ستحاول أن تُصلح رجل لا يقبل الإصلاح؟ بل هو لا يدرك أن به أي مُشكلات أو اضطرابات نفسية ويظن أن على قدر من الذكاء لا يشوبه شائبة!
لن تقوم بالإختيار بدلًا منها، ولن تعشقه مثل هذا العشق الذي تُكنه له، لماذا عليها أن تُغرم برجلٍ في غاية التعقيد؟ لماذا عليها أن تقع في عشق رجل لا ينتهي ماضيه؟
اغمضت عينيها وانسابت منها الدموع في صمتٍ تام، دون أن تتحول عبراتها الساقطة إلي نحيب، بُكاءٍ هو نفسه مُرهق، لم يعد يستطيع التعبير عن نفسه بصراخٍ ولا حتى إجهاش.. دموع استسلمت لتلك الظلمة الحالكة برأسها التي تغلف افاعي افكارها الملتفة حول بعضها البعض وكل منها متلهف للإنقضاض!
حاولت أن تبتلع ملوحة دموعها وجففت وجهها ببدايات أناملها، لن يُفيد الجلوس ساكنة لا تفعل شيء سوى التذكر والمقارنات ومتى كان جيدًا معها ومتى كان سيئًا ولن يُحضر هذا برأسها سوى المزيد من الشتات.. وخصوصًا بعد هذا الشهر الذي ظنت أنها قضته معه في الجنة وليس بهذه الحياة التي تعيش بها!!
نهضت لتترك فراشها وتستعد لليوم، العمل، قد تزور ابنة خالتها أو تذهب للتبضع، ستحاول أن تنظم افكارها كما اعتادت بالفترة الماضية، ولتجعل سفره فرصة لها أن تتوقف عن التفكير ليُلهمها غيابه بعض الراحة الفكرية ولو مؤقتًا!
ولكن عليها أولًا أن ترسل له هذه الرسائل، علها تجعله تُدرك أنها لن تعود لتلك القارئة الصامتة بعد الآن! (زي اللي مش بيصوتوا)
❈-❈-❈
هبط الدرج الداخلي للمنزل بعد أن فشل فشلًا ذريعًا في النوم واكتفى بالتفقد من على مسافة قدوم والده، فهو على علم أن ما فعله معه سيجعله غاضبًا كالبركان الثائر وسيندفع بسرعة البرق ليأتي بكل حممه المغلية كي يُسقطها عليه، ولكن لا بأس من إضافة المزيد من الإشتعال إلي حياته المحترقة بالفعل وقاربت التحول بالفعل إلي جبل من الرماد الخانق..
تفقد هاتفه سريعًا ليرى أنها ذهبت بالفعل لعملها بعد أن أرسل لها واحدًا من أفراد الأمن المُعينين لحمايتها وأيضًا مراقبتها رسالة تُفيد بتحركاتها ليتردد بداخله لوهلة قبل التحدث إليها ولكنه قرر أن يستلهم بعض الصبر لفعلها فيكفيه كل ذلك الضعف الذي انهمر منه كالشلالات الجارفة طوال الفترة الماضية بين يديها..
جلس بواحدٍ من الأركان واكتفى بإلقاء تحية الصباح بإبتسامة رسمية وطلب بعض القهوة واستمر في مراقبة الجميع بعينيه المتفحصتين وأخذ يُراقب الدقائق تمر ولم يُرد الإنغماس بأي من النقاشات، فكل هذه الإنتخابات ودعم والده يخصه هو، هو من اراد ذلك ولقد اخبره منذ البداية أنه سيأتي من اجله فقط وليس من أجل أي احد بهذه العائلة..
وها قد حانت اللحظة الحاسمة، لقد آتى والده، فلتبدأ المعركة الباردة أو الحامية، لا يكترث، ولكن لا يُمكن للوضع أن يسوء اكثر! فالعناد يرث الكُفر، ولقد بيّن له أن كافرًا بكل ما يخص هذه العائلة، ولكنه لم يستمع منذ البداية، ليتحمل ما سيحدث إذن!
- مرحبًا أبي!
رآى مُقلتيه تتلظى بجحيم الغيظ وهو يبتسم له أمام الجميع ابتسامة لم تلمس عينياه لم تكن اكثر من خطٍ رفيع يتأجج للإنشقاق حتى يُحرر تلك الكلمات التي بالكاد تتوقف على طرف لسانه واقترب منه كمن يُحيه بعناقٍ ليهمس بأذنه:
- لقد اتيت بمفردك، لم اكن على علم أنك بارع لدرجة تؤهلك من إنهاء كل اعمالك المتأخرة في غضون ساعات قليلة!
ابتعد وتوسعت ابتسامته ثم واصل والآخر يضيق عينيه إليه متفحصًا اياه ببرود:
- هنيئًا لك بُني..
ابتعد اكثر ليقف بجانبه ثم اسند ساعده على كتفيه ليقارب "عمر" على التحرك بعيدًا بينما اعلن والده فجأة:
- كم أنا فخور به، عمر يعمل على قضية عمره هذه الأيام.. ولكنه يتكتم على التفاصيل.. لو استطاع الحصول على البراءة لموكله لن ينساها له التاريخ!
التفت إليه ناظرًا له بإبتسامة مقتضبة وهو على يقين بأنه يصفعه بتلك الإهانة المستترة خلف كلماته ليتبادلا النظرات المتحدية لوهلة وكل منهما يعرف ما الذي يتلاعب به الآخر، بينما استمع كلاهما لتهنئة الجميع وبعض من سأل على التفاصيل كقضية من وعن ماذا ولكن والده دائمًا ما يكون محقًا بشكل أو آخر، فليعتبر إذن أنها قضية حياته بأكملها! سيُريه كم أنه يأخذ كلماته على محمل الجد!
سينتهي أولًا من هذا الدعم المزعوم لإبن عمه كي يُعد الخطابات والمناقشات والعهود وكل ذلك الدعم له وللعائلة التي تفعل الخير لهم مثل ما لم تفعل عائلة في التاريخ قط، وبعدها سيُبرهن له ما الذي يُعنيه بقضية حياته، فلقد تعلم منه أن يُثبت له أنه مُحق، مثله تمامًا!!
❈-❈-❈
في صباح اليوم التالي..
استيقظت، متأخرة عن موعد استيقاظها المعهود، لم تفعلها منذ زمن، برأس مشتتة كما هي، فاقدة الرغبة بفعل أي شيء، حتى المعالجة النفسية لم تُحدثها واكتفت بالإعتذار عن موعد جلستها معها.. ابنة خالتها لم تذهب لها، أقلعت عن الإطناب بقضاء الوقت بين تطبيقات مواقع التواصل الإجتماعي، حتى "عنود" نفسها لم تقم بالرد على رسائلها العديدة..
الغرق بدوامة العمل لم يعد يفيد.. الغرق بالتفكير بمدى مصداقيته لا يهديها السبيل، ولو حتى كان يقصد أن يُريها تلك الرسائل، هل كانت ستستمر معه؟!
اللعنة على عشق هذا البغيض بكل ما يحمله من أوجه!
لا تستطيع سوى أن تلعن قلبها ملايين المرات لعشقه، نعم هي تفعل وبجنون، تتمنى حتى لو أن الأمر صراخ غاضب، أو مناقشة محتدة، أو حتى نزاع على ميوله - التي هي في الحقيقة مرض - لكانت غفرت له، ولكنها لا تتحمل أن كل ما توصلا إليه كان بسبب التشابه بينها وبين فتاته الخائنة التي دفعت حياته للتحول..
نهضت وتفقدت هاتفها، ليس هناك أي مكالمات منه، ليس هناك أي رسائل، لا تدري اتشعر بالسخرية من الأمر، الحزن لأنه لم يلح عليها بأن تسامحه، أم الراحة لأنه بات يتقبل قرارتها وطلباتها التي تقوم بطلبها، فهي تتذكر أنها صممت على أن يتركها وشأنها حتى تستطيع أن تُفكر بالأمر!
تنهدت وهي شاردة لوهلة ثم تركت هاتفها جانبًا، لابد أن بسبب الشحن السريع سيرى أن الرسائل لا تُهمها في شيء، عليها انتظار ردة فعله على ذلك، كما عليها أن ترى هل سيصمم على كلمته بأنه لن يقوم بتطليقها أم لا!
الساعة العاشرة والنصف، ربما لو ارتدت ملابسها واغتسلت ستصل بتمام الحادية عشر، وتقضي الوقت بالعمل، ربما خمس ساعات، وقد تحاول أن تتحدث مع "عنود" أو تذهب لها أو تختلط بأي وجه من أوجه الحياة بدلًا من إنغلاقها المبالغ به الذي سيُصيبها حتمًا بالوقوع في المزيد من التفكير به..
كادت أن تدخل الحمام الملحق بالغرفة ولكن أوقفها صوت رنين هاتفها فهرعت سريعًا ظنت أنه هو لتجد أنها "يارا" ابنة خالتها لتزفر بخيبة أمل وترددت لوهلة قبل أن تقوم بإجابتها ولكنها تتذكر ذلك المعروف الذي فعله "يونس" من اجلها وهو يُساعدها بعملها وكذلك الطريقة اللطيفة التي باتت تتعامل بها معها حتى بعد كل تلك السنوات من عدم ودها لها فأجابت وحاولت أن تتحلى بنبرة تلقائية عكس كل ما يدور برأسها:
- صباح الخير ابنة خالتي العزيزة، كيف حالك؟
اجابتها بإقتضاب مبالغ به وبجدية لا تبادل نبرتها المرحة:
- بخير روان
تعجبت "روان" من تلك النبرة الغريبة التي تتحدث بها وقبل أن يزداد تعجبها استطردت "يارا" بجدية شديدة:
- روان، هناك إمرأة صممت على أن مقابلتك هنا، أظن أنكِ لابد لكِ من الحضور على الفور! عليكِ رؤيتها!
يُتبع ..